Connect with us

أخبار الشرق الأوسط

من يحكم الجنوب السوري؟

Avatar

Published

on

درعا محافظة سورية تمثّل نموذجًا مختلفًا عن بقية المناطق السورية. كان يسيطر عليها الثوار السوريون، ثم صارت تسيطر عليها قوات النظام وحلفاؤها: روسيا، وإيران، والمليشيات الموالية المحلية والأجنبية. وعلى الرغم من السيطرة العسكرية للنظام، فإن المحافظة بقيت تشهد حراكًا مدنيًّا يرفع شعارات الثورة السورية، وعمليات عسكرية تستهدف قواته، وفوضى أمنية، هذا إضافة إلى مناطق فيها بقيت بمنأى عن سيطرة النظام.

وبسبب نموذج السيطرة الملتبس وحالة الاستثناء في الجنوب السوري، فإن دراسة المشهد هناك تشكل مفتاحًا لفهم تعقيد الوضع السوري أكثر من بقية المناطق السورية، التي تبدو فيها سيطرة الأطراف المختلفة واضحة. كما يمثل الجنوب إثباتًا لاستمرار الهويات السياسية التي تشكلت مع الثورة السورية، واستعصاء سيطرة النظام الاجتماعية على حواضن الثورة السورية، أو العودة إلى حالة ما قبل مارس/آذار 2011.

2011 – 2018: مهد الثورة السورية
عُرفت محافظة درعا بلقب “مهد الثورة السورية”، لانطلاق المظاهرات الشعبية في درعا البلد بتاريخ 18 مارس/آذار 2011، ثمّ توسعت إلى مختلف مناطق المحافظة، ومنها إلى بقية المحافظات السورية تباعًا، عقب حادثة “الكتابة على الجدران” واعتقال الأطفال، التي شكّلت شرارة الاحتجاجات.

سرعان ما شهدت مختلف المناطق في المحافظة مشاركة شعبية عامة في المظاهرات، وأصبحت ترفع شعارات محلية مرتبطة بالهوية الحورانية في وجه السلطة، إضافة إلى المطالب السياسية الوطنية المتعلقة بالتغيير السياسي والحريات والإفراج عن المعتقلين. ولعلّ أبرز مظاهر التضامن المحلي، كان المظاهرات الشعبية المتضامنة مع درعا البلد في بقية مناطق المحافظة، وهو ما عُرف بـ”الفزعة”.

ومّما يجعل درعا “مهد الثورة” فعلًا، شهودها سقوط أول شهداء الثورة السورية، وأولى المجازر التي ارتكبتها قوات النظام، وأولى الاقتحامات العسكرية، حتى حضرت درعا في معظم شعارات المظاهرات التي انطلقت متضامنةً في المحافظات الأخرى بداية الثورة.

ورغم التشابه بين درعا وبقية المحافظات السورية، في ديناميات الثورة وسيرورتها وتوسعها؛ من المظاهرات إلى سقوط الشهداء ثم المظاهرات الكُبرى والمجازر والانخراط الشعبي الواسع وصولًا إلى التحول نحو العمل المسلح، فإن حالة التضامن المحلي والانخراط الشعبي العام في الثورة كانت ظاهرة في محافظة درعا أكثر من سواها إلى درجة أصبح فيها تأييد النظام منذ الأيام الأولى، يمثل “وصمة اجتماعية” تدفع العشائر والعوائل إلى التبرُّؤ من أبنائها المسؤولين في النظام أو المؤيدين له، كما أصبح النظام في الأشهر الأولى للثورة السورية، يعامل ابن درعا كمتهم؛ ممّا يجعله عرضة للاعتقال. لذلك كلّه، اكتسبت المحافظة منذ البداية، هوية سياسية اجتماعية صلبة، مرتبطة بالثورة السورية.

لاحقًا، وفي الثلث الأخير من عام 2011، نشأت في درعا -كبقية المناطق السورية- ظاهرة العمل المسلح، تحت شعار “الجيش السوري الحر”. وفي النصف الثاني من عام 2012، تحول العمل المسلح من حماية المظاهرات واستهداف حواجز النظام إلى “التحرير” والسيطرة العسكرية. بيد أن أقصى توسع للثوار في الجنوب السوري، كان في مارس/آذار 2015 بعد السيطرة على مدينة بصرى الشام.

ارتبط العمل المسلح بنشوء فصائل متعددة حسب المناطق أو التوجهات، فقد ظهرت فصائل سلفية محلية؛ وأبرزها “حركة المثنى الإسلامية”، و”حركة أحرار الشام”. كما نشطت التنظيمات السلفية الجهادية وأبرزها “جبهة النصرة” التي كان معظم قادتها أردنيين، ثم “جيش خالد بن الوليد” المتهم بالتبعية لتنظيم الدولة في منطقة حوض اليرموك. وفي هذه المنطقة بين عامي 2015 و2018، نشأت جبهة قتال بين “لواء شهداء اليرموك” و”جيش خالد بن الوليد” من جهة، وفصائل متعددة أبرزها “جبهة النصرة” و”حركة أحرار الشام” من جهة أخرى.

لقد شكلت فصائل “الجيش السوري” عام 2014، مظلة موحدة تحت مسمى “الجبهة الجنوبية” المدعومة من غرفة “الموك”، وهو ما ساعدها على إبقاء المحافظة بعيدة عن هيمنة التنظيمات السلفية المحلية أو الجهادية، كما حصل في الشمال أو الشرق السوري، ولكن دون أن تمثل توحيدًا كاملًا للعمل العسكري أو إلغاء لارتباطات ومشاريع الفصائل المنضوية تحتها أو استقلالية للقرار؛ مما أبقى الجنوب متأثرًا بالفاعلين الإقليميين والدوليين، وخاصة الأردن والإمارات والولايات المتحدة وإسرائيل.

وإضافة إلى ذلك، تأثرت محافظة درعا بتدخل إيران والمليشيات المدعومة منها في سوريا. ومنذ أواخر عام 2014، شارك “حزب الله اللبناني” ومليشيات عراقية وأفغانية بشكل واضح في معارك “مثلث الموت” (المنطقة الواقعة بين ريف درعا والقنيطرة الشمالي وريف دمشق الجنوبي الغربي)، ولكن لم تتمكن إيران من تغيير المعادلة العسكرية في الجنوب السوري أو كسب مناطق إضافية لصالحها.

(ملف سوريا – من يحكم درعا)

وفي 30 سبتمبر/أيلول 2015، نشأت معادلة عسكرية جديدة في سوريا، انكسر فيها التوازن العسكري الهش لصالح النظام وحلفائه، وذلك بفعل التدخل الروسي وطيرانه والمعادلة الإقليمية الجديدة التي صاحبت هذا التدخّل، وهو ما دفع إلى انسحاب العديد من حلفاء فصائل المعارضة السورية، أو تغيير استراتيجيتهم، أو تقبل عودة النظام والتفاهم معه ومع الروس.

بهذا، بدأت المناطق السورية الانهيار بشكل متسارع، خاصة بعد سقوط حلب في ديسمبر/كانون الأول 2016، ثم سقوط الغوطة الشرقية التي استعمل النظام السلاح الكيميائي في معركتها الأخيرة لإجبار الفصائل على الاستسلام وقبول التهجير، وهو ما سهّل مهمته عندما انتقلت الحملة الروسية إلى الجنوب السوري في يونيو/حزيران 2018.

2018 – 2021: التسوية والاستثناء
سبق الحملة العسكرية على الجنوب السوري، اتفاق غير معلن بين الأردن و”إسرائيل” والولايات المتحدة وروسيا، يقرّ بسيطرة النظام السوري على محافظة درعا، ولكن مع ضمانات روسية بابتعاد إيران والمليشيات المدعومة منها عن الحدود مع الأردن والجولان المحتل. وصرّحت “إسرائيل” في الأيام الأولى من الحملة العسكرية، بأنها تفضل سيطرة النظام السوري على الجنوب السوري وحدود منطقة الفصل في الجولان.

وخلال الأيام الأولى من الحملة العسكرية، سيطرت قوات النظام وحلفاؤها على معظم الريف الشرقي للمحافظة. سقطت بعض المناطق بعد معارك عسكرية، وبعضها نتيجة “مصالحات محلية” أو اتفاقيات سرية مع الفصائل المسيطرة، وانهارت فصائل أخرى خلال أيام، بينما حافظ “الجيش الحر” في درعا البلد على مواقعه وسيطر على مواقع جديدة، ولكن مع سقوط الريف الشرقي وانهيار خطوط الدفاع، أصبح النظام السوري وحلفاؤه على مشارف درعا البلد وريف درعا الغربي.

بدأت بعد سقوط الريف الشرقي، جولة مفاوضات بين الفصائل والضباط الروس في مدينة بصرى الشام، برعاية فصيل “فرقة شباب السنة” بقيادة أحمد العودة المدعوم إماراتيًّا، الذي كان أول المتفقين مع الجانب الروسي والداعين إلى الاتفاق معه وعدم مقاومته عسكريًّا؛ لأن ذلك “غير مجدٍ”، ويرجّح أن هذا الاتفاق كان سابقًا على الحملة العسكرية.

لقد نشأ عن المفاوضات بين ممثلي درعا البلد وريف درعا الغربي من جهة، والضباط الروس من جهة أخرى، اتفاق التسوية في الجنوب السوري في 6 يوليو/تموز 2018، الذي كان مشابهًا في مضمونه لبقية اتفاقيات التسوية السابقة، وخاصة في ريف حمص الشمالي وجنوب دمشق.

تضمن الاتفاق الاعتراف بالنظام وحكومته ومؤسساته وعَلمه، والتخلي عن شعارات الثورة السورية و”تسوية” أوضاع المطلوبين للنظام أو المتخلفين عن الخدمة العسكرية، وتسليم السلاح الثقيل، وخروج من يرغب نحو الشمال السوري، وفي المقابل يفرج النظام عن المعتقلين ويتعهد بعدم ملاحقة الثوار والمنشقين وعدم الدخول العسكري إلى هذه المناطق، وإنما تدخل مؤسساته الحكومية والشرطة.

وعلى الرغم من اختيار آلاف من الناشطين والعوائل المغادرة نحو الشمال السوري، فقد اختارت الكتلة الثورية والاجتماعية الكبرى البقاء هناك، ومحاولة التكيف مع الوضع الجديد بعد اتفاق التسوية، ومحاولة عدم السماح بانفراد النظام بالأفراد الباقين، أو حصول تهجير واسع هناك. ورغم تنفيذ النظام جولات في مناطق التسوية، فإنه انسحب منها سريعًا، وبقيت تحت سيطرة الشبكات الثورية والاجتماعية نفسها.

هكذا، نشأت عن الوضع الجديد خريطة جديدة بفاعلين جُدُد، غير أنهم استمرار للشبكات الثورية والاجتماعية السابقة على اتفاق التسوية. ومع انتهاء العمل بمسميات الفصائل، فقد حافظ فصيل “فرقة شباب السنة” على وجوده وتحوّل إلى العمل تحت مسمى “الفيلق الخامس” التابع للقيادة الروسية، وإن كان رسميًّا ضمن هيكلية جيش النظام السوري، الذي انتقل لاحقًا إلى مسمى “اللواء الثامن” ضمن الفيلق الخامس. وأصبح وجهة مفضلة لدى العديد من المقاتلين في ريف درعا الشرقي، بوصفه ضمانًا لعدم ملاحقة النظام وبديلًا في الوقت نفسه عن الانضمام إلى قواته.

كما انضمت مجموعات من مقاتلي الفصائل سابقًا إلى العمل مليشيات رديفة للأمن العسكري والمخابرات الجوية، وانضم آخرون إلى “الفرقة الرابعة” في جيش النظام مع بقائهم ضمن مناطقهم، وبقي القسم الأكبر من المقاتلين ضمن مناطقهم في مجموعات محلية دون مسميات.

وظهرت “اللجنة المركزية في درعا البلد” و”اللجنة المركزية في ريف درعا الغربي”، المشكّلتان من وجهاء محليين وقادة فصائل الجيش الحر سابقًا، لتكونا مسؤولتين عن التفاوض مع الجانب الروسي والنظام، ومتابعة تنفيذ اتفاق التسوية.

وقد أصبحت هاتان اللجنتان أشبه بهيئات حكم محلي في مناطق التسوية، وامتدّ نفوذهما إلى المناطق الأخرى، التي شهدت مصالحات محلية سابقة على اتفاق التسوية، والمناطق التي سقطت عسكريًّا في بداية الحملة. هذا إضافة إلى تكتلات عشائرية ومحلية في كل منطقة، ضمنت التعامل مع النظام بوصفها كتلًا اجتماعية وليس أفرادًا.

(ملف سوريا – من يحكم درعا)

بدأت مظاهر نموذج الاستثناء الظهور في درعا، وذلك بعد أشهر معدودة من اتفاق التسوية، إذ عادت المظاهرات التي ترفع شعارات مناهضة للنظام، ومتضامنة مع مناطق يشنّ حملاته عليها، أو تطالب بالإفراج عن المعتقلين. كما عاد علم الثورة السورية إلى الظهور في المظاهرات، وشعار “إسقاط النظام” في مناطق التسوية التي لم تدخلها قوات النظام العسكرية، ثم توسعت حتى في المناطق التي لم يشملها اتفاق التسوية، لتصبح حالة عامة في المحافظة.

في المقابل، لم يلتزم النظام ببنود اتفاق التسوية حول الإفراج عن المعتقلين أو عودة الخدمات إلى المناطق أو انسحاب قواته العسكرية، واستمر في تنفيذ اعتقالات على الطرق بين المدن والبلدات، إضافة إلى حصار ومداهمة بعض المناطق التي لا تحتاج إلى حملة عسكرية ضخمة لاقتحامها.

كما بدأت عقب التسوية حالة من الاغتيالات والفوضى الأمنية، فاستهدف العديد منها قادة اللجان المركزية والناشطين وقادة الفصائل، كما استهدف قسم منها قوات النظام وضباطه، ومارست المجموعات المحلية، التي انضمت إلى الأمن العسكري والمخابرات الجوية، حملات مداهمة وعمليات اغتيال في مناطق وجودها، فأوجدت حالة من الاقتتال الأهلي شجعها النظام بديلًا عن دخوله في حرب عسكرية مباشرة.

بلغت مظاهر عدم سيطرة النظام على المحافظة ذروتها في ذكرى الثورة السورية العاشرة (18 مارس/آذار 2021)، حيث خرجت مظاهرات ضخمة في عموم المحافظة ترفع علم الثورة السورية وتنادي بإسقاط النظام واستمرار الثورة. ثم في الانتخابات الرئاسية في مايو/أيار 2021، حيث تجددت المظاهرات المناهضة لانتخاب الأسد، فلم يتمكن النظام من تنفيذ انتخابات في معظم مناطق المحافظة، حتى في مناطق سيطرة “الفيلق الخامس”؛ إذ انتشرت تهديدات باستهداف أي مركز تُجرى فيه الانتخابات.

ولقد سجلت قاعدة بيانات موقع “أكليد” في الفترة نفسها، خروج 271 مظاهرة في محافظة درعا منذ أغسطس/آب 2019 وحتى نهاية فبراير/شباط 2023 (من المؤكد أن العدد الحقيقي أكبر من ذلك).

دفعت حالة التحدي هذه، النظام، بموافقة روسية ودعم من مليشيات أجنبية، إلى بدء حملة عسكرية ثانية في مايو/أيار 2021 ضد درعا البلد، دون أن يتمكن من التقدم العسكري فيها رغم حصارها ومحاولة اقتحامها. ودفع حصار درعا البلد إلى “فزعة” ثانية في المحافظة، هاجم فيها المقاتلون المحليون في معظم مناطق المحافظة حواجز النظام العسكرية، واحتجزوا نحو 300 من عناصره، إضافة إلى مقتل آخرين في 29 يوليو/تموز 2021.

وشارك في الهجوم على النظام، عناصر انضموا إلى “الفيلق الخامس” و”الفرقة الرابعة”؛ مما أظهر هشاشة سيطرة النظام على المحافظة والطبيعة التكيفية أو البراغماتية لانضمام المقاتلين المحليين إلى هيكلية الفيلق الخامس وحتى الفرقة الرابعة.

وانتهت الحملة العسكرية الثانية بإجراء اتفاق تسوية ثانٍ في درعا البلد، انتقل إلى عموم المحافظة في سبتمبر/أيلول 2021، شبيه بالاتفاق الأول. ورافقت ذلك محاولة روسيا تغيير وضع الاستثناء في الجنوب السوري، وسحب المظاهر العسكرية، وإضعاف نفوذ الفيلق الخامس والمجموعات المحلية، وهو ما زاد فعليًّا من مظاهر الفوضى الأمنية.

2018 – 2023: أشكال من الفوضى الأمنية
أصبحت الفوضى الأمنية أبرز سمة في محافظة درعا منذ اتفاقية التسوية (يوليو/تموز 2018)، التي تمت برعاية روسية وتفاهم إقليمي ودولي. ورغم توقف الحرب العسكرية وإعلان سيطرة النظام على المحافظة، فإن الحرب الأمنية قد بدأت آنذاك في المحافظة.

لقد دفع الوضع الجديد المجموعات والشخصيات الباقية إلى إعادة التموضع للتكيف معه بطرق مختلفة، فانتقل قسم من المقاتلين إلى الحياة المدنية، وحافظ قسم كبير منهم على نشاطه ضمن مجموعات محلية في مناطق تابعة أو متحالفة مع اللجان المركزية، أو مجموعات محلية على خلاف مع اللجان المركزية سواء لأسباب متعلقة بالتنافس المحلي أو بعدم انضباطها أو برفض التسوية والتفاوض مع النظام، بينما انضمّت مجموعات إلى اللواء الثامن في الريف الشرقي؛ اتقاءً لملاحقة النظام، وانضمت مجموعات أخرى إلى الفرقة الرابعة في جيش النظام في الريف الغربي وبقيت ضمن قراها، وتحولت مجموعات إلى مليشيات رديفة للأمن العسكري والمخابرات الجوية وأصبحت ذراعًا للأجهزة الأمنية في مناطقها.

المليشيات المحلية
أجبرت اتفاقية التسوية كلًّا من النظام ومقاتلي المعارضة، على وقف الحرب العسكرية المباشرة، والتكيف مع الوضع الجديد. ولأنها لم تسفر عن سيطرة كاملة لأي طرف، أو مصالحة حقيقية بين الطرفين، أو بين المجتمع والسلطة، فإن التكيّف مع الوضع الجديد بالنسبة للنظام والثوار كان التحول نحو الحرب الأمنية أو المواجهة بطرق أخرى.

لهذا، لجأ النظام السوري إلى تشكيل مليشيات محلية رديفة من مجموعات معارضة سابقة، تخوض حربًا بالوكالة عنه في مناطقها، إضافة إلى انخراطها ضمن شبكة مهمات أمنية متعلقة بالاغتيالات وتهريب المخدرات وعمليات خطف وغيرها. وأمكن لهذه المليشيات استكمال الحرب اليومية ضد المجموعات الثورية الرافضة للنظام، دون تدخل النظام بشكل مباشر. كما تمكنت الأجهزة الأمنية، بتشكيل هذه المليشيات، من تحويل المواجهة في المحافظة بين المجتمع والسلطة، إلى مواجهة بين مكونات المجتمع نفسه، تتدخل السلطة وسيطًا عند توترها.

كان أبرز هذه المليشيات المحلية، مجموعات مصطفى المسالمة في درعا البلد، ومجموعات فايز الراضي وعماد أبو زريق وأبو علي اللحام في مناطق ريف درعا الشرقي. وفي 28 مارس/آذار 2023، صدرت عقوبات بريطانية أميركية ضد متورطين بتجارة المخدرات، التي تمول نظام الأسد، شملت القياديين في المليشيات المحلية الرديفة عماد أبو زريق ومصطفى المسالمة (الكسم).

وقد اتهمت اللجان المركزية والناشطون في الجنوب هذه المليشيات، بالمسؤولية عن عمليات اغتيال استهدفت مقاتلي الفصائل سابقًا والشخصيات الرافضة لسيطرة النظام في الجنوب. وفي المقابل، تعرضت هذه المليشيات إلى العديد من عمليات الاغتيال، كان أبرزها مقتل فايز الراضي في 8 مارس/آذار 2023، ومقتل مصطفى المسالمة الملقب “الكسم” في 9 أغسطس/آب 2023 بعد 8 محاولات اغتيال.

الاغتيالات والحوادث الأمنية
تفاقم عدد ضحايا الفوضى الأمنية في محافظة درعا، منذ سبتمبر/أيلول 2019 حتى نهاية عام 2023. وقد شملت الاغتيالات والعمليات الأمنية جميع الأطراف هناك، على مستوى الفاعلين والأهداف، وتركز معظمها في مناطق ريف درعا الغربي، إضافة إلى الحوادث الجنائية البحتة التي شجع عليها وضع الانفلات الأمني، والتي كان القسم الأكبر منها خارج مناطق التسوية أو سيطرة اللجان المركزية.

ولكن أبرز هدف لعمليات الاغتيال كما تُظهر الأرقام، هو مقاتلو الفصائل قبل التسوية، الذين انضم قسم منهم إلى أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، وحافظ القسم الأكبر على نشاطه ضمن مجموعات محلية أو انتقل للحياة المدنية. وتبدو عمليات الاغتيال بين القسمين هي الأعنف، وتشغل نحو نصف عدد المستهدفين والقتلى.

كما تُظهر الأرقام كثرة عدد القتلى السنوي من عناصر النظام في منطقة يسيطر عليها نظريًّا، نتيجة عمليات الاغتيال أو تفجير العبوات أو استهداف الآليات أو المواجهات العسكرية، الذي قد يزيد على عدد قتلى النظام بجبهات الشمال السوري.

حملات عسكرية
سجلت قاعدة بيانات موقع “أكليد”، 1419 حادثة اشتباك عسكري في محافظة درعا، منذ أغسطس/آب 2019 حتى نهاية فبراير/شباط 2024.

ومنذ اتفاقية التسوية، نشر النظام عشرات الحواجز العسكرية والأمنية في مناطق المحافظة، خاصة بين المدن والبلدات، وأعاد التمركز في القطع العسكرية التي سيطر عليها الجيش الحر سابقًا. كما حوّل النظام بعض الحواجز إلى ثكنات عسكرية ضخمة، مثل “معمل الري” بالقرب من بلدة طفس، حيث صبغت هذه الثكنات المحافظة بمظاهر عسكرية واسعة، وشكّل وجودها حالة استفزاز واستهداف سهل بالنسبة للمقاتلين المحليين الرافضين لها؛ مما شجع أيضًا على تصاعد العمليات العسكرية ضدها. وبدلًا من تنفيذ شرط اتفاق التسوية بشأن الإفراج عن معتقلي المحافظة، فقد نفذت هذه الحواجز نحو 2600 اعتقال منذ اتفاقية التسوية؛ مما ساهم أكثر في تقويض الثقة بالوضع الجديد بعد الاتفاقية بالنسبة لدى السكان واللجان المركزية والمجموعات الرافضة للتسوية، وشجع على خروج مظاهرات مستمرة تطالب بالإفراج عن المعتقلين، خاصة في درعا البلد.

إضافة إلى ذلك، نفذت قوات النظام طوال سنوات التسوية عشرات الحملات العسكرية، التي اتبعت فيها نهج حشد قوات عسكرية في محيط المنطقة وقصفها وطلب تسليم أو ترحيل مطلوبين بتهمة تنفيذ عمليات عسكرية ضد النظام أو التبعية لـ”تنظيم الدولة”، وكانت تنتهي غالبًا بدخول اللواء الثامن (الفيلق الخامس سابقًا) كقوات فصل، ودخول قوات النظام لإجراء تفتيش في المنطقة وإجراء تسويات متكررة ثم الانسحاب. وتزامن العديد من هذه الحملات مع مواسم الحصاد، لتشكيل ضغط اقتصادي مضاعف على الأهالي، وكانت كبرى هذه الحملات على درعا البلد، وشهدت بلدة طفس خاصة العدد الأكبر من الحملات العسكرية، وهما أبرز المناطق التي وافقت على اتفاقية التسوية.

وضعت الحملات العسكرية المتكررة المحافظة في حالة حرب متجددة، وقوضت -إلى جانب الاغتيالات والحوادث الأمنية وتردي الوضع الخدمي والاقتصادي- توقعات الاستقرار في الجنوب بعد اتفاقية التسوية، وبدلًا من أن تتحول المنطقة إلى مساحة آمنة تشجع عودة اللاجئين، زادت بعد الاتفاقية معدلات الهجرة من المنطقة بشكل متصاعد.

تنظيم الدولة
ضاعف تعقيدَ وسوءَ الوضع الأمني في المحافظة نشاطُ خلايا “تنظيم الدولة” والمرتبطين به. وكانت أزمة التنظيم منحصرة قبل اتفاقية التسوية في منطقة حوض اليرموك، التي يسيطر عليها “جيش خالد بن الوليد” الموالي للتنظيم، ولكن أعقب اتفاقية التسوية تنفيذ فصائل المعارضة في المنطقة الغربية عملية عسكرية ضد التنظيم سيطروا خلالها على منطقة حوض اليرموك، واعتقل النظام العشرات من عناصره، ثم أفرج عن معظمهم خلال السنة التالية.

أعاد هؤلاء العناصر الانتشار والنشاط في المحافظة، وانضم بعضهم إلى أجهزة النظام الأمنية مليشيات رديفة، وشجع وضع الفوضى الأمنية والسيطرة الهشة في المحافظة على تحولها إلى بؤرة استقطاب لعناصر التنظيم من خارج المحافظة، كما شجع تنظيمات مختلفة على محاولة النشاط هناك، مثل تنظيم “جبهة أنصار الدين” الذي قُتل أحد قياداته (أبو جليبيب) أثناء محاولته العبور إلى المحافظة، بعد قضاء “هيئة تحرير الشام” على التنظيم في إدلب وملاحقة قياداته.

نشط عناصر جيش خالد السابقون مع عناصر تنظيم داعش الوافدين من خارج المحافظة في التجنيد والتحالف مع فئة ثالثة، هي المجموعات المحلية من عناصر الفصائل الثورية سابقًا المناوئة للجان المركزية، لأسباب مختلفة، ولو لم يكن عناصر هذه المجموعات من المنتمين إلى أيديولوجية التنظيم أو ممن يتحركون بناء على دوافعه نفسها.

وتمركزت خلايا التنظيم في مناطق، أبرزها جاسم وطفس وحوض اليرموك، وكشفت تسريبات و”اعترافات” أسرى لدى اللجان المركزية عن تنفيذ هذه الخلايا عمليات اغتيال ضد مجموعات اللجان المركزية والمجموعات الثورية المناوئة للنظام في المنطقة، وكشف بعضها اتصالات مسجلة بثّت على شبكة الإنترنت بين قيادات من هذه الخلايا مع ضباط من النظام.

استهدفت عمليات التنظيم في معظمها قادة اللجان المركزية، وقادة المجموعات المحلية الذين شارك بعضهم في مقاومة سيطرة النظام على مناطق التسوية وفي المعارك ضده بعد التسوية، وخاصة في درعا البلد وريف درعا الغربي.

كما أعلن التنظيم المسؤولية عن عمليات عسكرية ضد النظام واغتيال شخصيات من المليشيات المحلية الرديفة للأجهزة الأمنية، ومن أبرز الشخصيات التي حمّلت اللجان المركزية هذه الخلايا مسؤولية اغتيالها: عملية اغتيال القياديين في غرفة “البنيان المرصوص” سابقًا عدنان أبازيد ومعتز قناة، واغتيال أعضاء اللجنة المركزية في ريف درعا الغربي فادي العاسمي وأحمد البقيرات وأبو البراء الجلم ومصعب البردان، ونفذت مجموعات “هفو والحرفوش” المتهمة بالتبعية للتنظيم عملية انتحارية في منزل قيادي معروف في الجيش الحر في درعا البلد في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2022 تسببت في مقتل 4 أشخاص وإصابة آخرين، وأعقب ذلك إطلاق عملية عسكرية واسعة ضدهم.

المخدرات
أصبحت أزمة المخدرات بعد التسوية، العنوان الأبرز للجنوب السوري على المستوى الإقليمي. وصنفت الولايات المتحدة عدة قادة في المليشيات المحلية الرديفة لأجهزة النظام الأمنية في محافظة درعا على قوائم العقوبات لعلاقتهم بتجارة المخدرات.

ومع أن صعود نشاط تصنيع ونقل المخدرات منتشر في المحافظة ويجري عبرها، فإن كثافة نشاطات التهريب والمواجهات المسلحة بين المهربين وقوات حرس الحدود الأردنية تركزت على بادية محافظة السويداء. وقد أدى ذلك إلى وقوع عمليات استهداف واغتيالات لأشخاص مرتبطين بتجارة المخدرات، وشنّ غارة أردنية (لم تصرح الأردن رسميًّا بتبنّيها) على موقع قيل إنه يستعمل لتصنيع “الكبتاغون” قرب بلدة خراب الشحم في 8 مايو/أيار 2023، وتركزت الغارات الأردنية على محافظة السويداء، وكان أكبرها قصف عرمان وتل ملح الذي تسبب في مجزرة في 9 يناير/كانون الثاني 2024، وقد تزامن التصعيد مع موجة اشتباكات متكررة على الحدود.

وأعقب الغارات الأردنية إعلان اللجنة المركزية في ريف درعا الغربي، مداهمة مزرعة لتخزين “الكبتاغون” قرب بلدة طفس في 23 يناير/كانون الثاني 2024، واستعدادها للمشاركة في الحرب على تجار المخدرات.

2022 – 2024: كيف استعاد الجنوب المبادرة؟
حافظت الشبكات الثورية والاجتماعية في محافظة درعا على فاعليتها بعد اتفاقية التسوية عام 2018، ورغم تعرضها إلى ضربات عديدة بسبب تسليم السلاح الثقيل والاغتيالات والحصار والحملات العسكرية ومحاولة شق الصف الأهلي عبر تشكيل المليشيات الرديفة، فإن هذه الشبكات أثبتت قدرتها على الصمود والتكيف وإعادة التشكل، إضافة إلى تمثيل المجتمع المحلي ومصالحه واستمرار دعمه، مدعومة أيضًا بقوة تسييس الهوية المحلية (الحورانية) في مواجهة السلطة.

حافظت كتل ثلاث بشكل رئيس على استمرار فاعليتها وتنظيمها منذ اتفاقية التسوية، رغم التغيرات التي تعرضت لها، وهي: اللواء الثامن في مدينة بصرى الشام وريف درعا الشرقي، وكتلة درعا البلد التي كانت ممثلة عبر اللجنة المركزية (أعلنت حلّ نفسها) ومجلس عشيرة درعا ومجموعات المقاتلين المحليين التابعين للمجلس واللجنة، وكتلة اللجنة المركزية والمجموعات المحلية غير المنضمة إلى النظام في ريف درعا الغربي.

وإلى جانب هذه الكتل التي مثلت امتدادًا للفصائل والشبكات الثورية السابقة للتسوية، فقد تشكلت هيئات اجتماعية ذات طابع عشائري أو مناطقي، كان أبرزها مجلس عشيرة درعا ومجلس أعيان المنطقة الغربية، إضافة إلى اجتماع عشائر درعا في فترة حصار درعا البلد في 5 أغسطس/آب 2021.

ومن شأن هذا اللجوء إلى اللجان العشائرية والتمثيل الاجتماعي، المحافظة على تماسك الكتلة الاجتماعية الرافضة للنظام في المحافظة، وتوسيع إطار التمثيل والتفاوض في مواجهة النظام، إذ يسهل أكثر تبرير الحروب العسكرية ضد جهات مسلحة مقارنة بوجود جهة عشائرية واجتماعية مدنية. ورغم اعتماد النظام أيضًا على شخصيات حزبية أو عشائرية محلية مؤيدة له في عدة مناطق، فإنه لم يتمكن من تأسيس كيان أهلي ذي مصداقية أو حاضنة حقيقية يمكنها تقديم تمثيل اجتماعي مضاد للتمثيل الثوري.

ولذلك، فقد أعادت الشبكات الاجتماعية والثورية الرافضة للنظام في الجنوب تشكيل نفسها بعد اتفاق التسوية، على شكل كيانات مدنية وعسكرية وأهلية، حاولت أن تقدم نفسها كتمثيلات متعددة المستويات للمجتمع، وأن تتحمل مسؤولية الحكم المحلي.

وبعد معركة درعا البلد واتفاقية التسوية الثانية في سبتمبر/أيلول 2021، تعرضت الكتل الثلاث السابقة إلى تغيرات أضعفتها، فاللواء الثامن أُلحق بجهاز الأمن العسكري وقُلّصت كتلته وقُلّص مقاتلوه، واللجنة المركزية في درعا البلد أعلنت حلّ نفسها، واللجنة المركزية والمجموعات المحلية في ريف درعا الغربي واجهت حملات عسكرية متجددة من قبل النظام، وخلايا تنظيم الدولة ومجموعات معارضة للجنة المركزية.

ولكن بعد أشهر من اتفاقية التسوية الثانية، التي رافقها تسليم آلاف قطع السلاح إلى النظام، استعادت هذه الكتل التنسيق فيما بينها، وحاولت المحافظة على التهدئة والخيار التفاوضي مع النظام. كما استعادت فاعليتها وحضورها في ضبط المشهد الأمني المحلي في مناطقها، وفرضت نفسها محليًّا على مستوى بلداتها وفي عموم المحافظة، لحلّ الأزمات وتصدّر المشهد بجدارة أعلى من النظام. ورغم إلحاق اللواء الثامن بشعبة الأمن العسكري رسميًّا، فإنه حافظ على سلوكه السابق في تقديم نفسه فصيلًا محليًّا مستقلًّا عن النظام.

ومنذ الربع الأخير من عام 2022، بدأت هذه المجموعات سلسلة عمليات ضد تنظيم داعش والمجموعات المرتبطة به، قضت على القسم الأكبر من قيادة التنظيم. ففي 9 أغسطس/آب 2022، حاصرت المجموعات المحلية في بلدة عدوان القائد العسكري للتنظيم في الجنوب، المكنى “أبو سالم العراقي” الذي فجّر نفسه. وفي 15 أكتوبر/تشرين الأول، انتهت الاشتباكات والحصار الذي كانت تفرضه المجموعات المحلية في الريف الغربي واللواء الثامن في عملية مشتركة، لمنزل كان يتحصن فيه مقاتلو التنظيم في مدينة جاسم، وذلك بتفجير المنزل وقتلهم، وقد أعلنت الولايات المتحدة لاحقًا أن أحد القتلى هو زعيم التنظيم العام أبو الحسن الهاشمي القرشي.

وقد دفعت ملاحقة قادة التنظيم في ريف درعا، بعضهم إلى اللجوء إلى حيي طريق السد والمخيم في مدينة درعا، مع مجموعات هفو والحرفوش، التي نفذت عملية انتحارية ضد منزل قيادي في الجيش الحر في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2022، تبعها إطلاق عملية عسكرية واسعة ضد هذه المجموعات، اشترك فيها اللواء الثامن ومجموعات درعا البلد، وانتهت بالسيطرة على المنطقة وهروب هفو والحرفوش ومقتل أحد أبرز قادة الجيش الحر في درعا وهو خالد عبد الرحيم أبازيد.

استمرت عمليات المجموعات المحلية واللجان المركزية واللواء الثامن المشتركة خلال عام 2023، وانتقلت إلى عدة بلدات. وقد تزامن بعضها مع تهديدات النظام باقتحام هذه المناطق بحجة وجود خلايا من التنظيم فيها، وكان أبرز هذه العمليات حملة اللجان المركزية واللواء الثامن في مدينة نوى بداية عام 2024، التي انتهت بإعلان مقتل القيادي في التنظيم أسامة العزيزي في 28 يناير/كانون الثاني 2024، الذي قالت اللجان المركزية إنه كان والي التنظيم في الجنوب.

نشط تحالف اللجان المركزية والمجموعات المحلية واللواء الثامن لمعالجة أزمة الخطف أيضًا، ونجح في مارس/آذار 2024 في إطلاق سراح عدة مخطوفين وإعلان القبض على الجهات الخاطفة، وذلك بعد حملات واجتماعات عشائرية وجهت اتهامات الخطف إلى مجموعات في منطقة اللجاة. كما نشطت اللجنة المركزية والمجالس العشائرية في عقد اتفاقيات الصلح العشائري وحل الخلافات المحلية، التي وصلت في كثير من الأحيان إلى اشتباكات مسلحة سقط فيها قتلى دون تدخل من جانب النظام.

ومع ذلك، واجه اللواء الثامن واللجنة المركزية في عدة حوادث انتقادات واتهامات بمداهمة مناطق واعتقال وإطلاق نار على مدنيين أو استهداف منافسين، كما حصل في بلدات المتاعية وأم المياذن واليادودة ومعربة، نتيجة خلافات اللواء الثامن مع مجموعات محلية، أو استباقًا لتهديد النظام باقتحام هذه المناطق بسبب وجود مجموعات من المطلوبين، كما وقع مؤخرًا عند اقتحام بلدة معربة ضد مجموعة محمد جاد الله الزعبي، الذي انتهى بمقتله إلى جانب 4 من مجموعته في يناير/كانون الثاني 2024، أو اعتقال اللواء الثامن 3 أشقاء من بلدة المتاعية بسبب خلاف مع شقيقهم المقيم في شمال سوريا في يناير/كانون الثاني 2023.

ظهرت المؤسسات والمبادرات المحلية البديلة عن مؤسسات النظام في عدة مستويات بعد اتفاقية التسوية، رغم عودة مؤسسات النظام إلى المحافظة، إذ لم تشهد المحافظة بعد التسوية تحسنًا على مستوى الخدمات أو حملات التنمية أو إعادة الإعمار. وساهم استمرار الحالة العسكرية والفوضى الأمنية والاعتقالات بشكل متزايد، في تردي الوضع الاقتصادي والخدمي.

كما لم يحاول النظام تقديم مبادرات تنموية في المحافظة كشكل من أشكال المصالحة مع المجتمع، أو لردم الهوة السياسية والوجدانية بينه وبين مهد الثورة ضده، واقتصر على الحملات العسكرية، وبقي العبء الأكبر من تدبير الخدمات على المجتمع المحلي والمبادرات الأهلية وتحويلات المغتربين، وشهدت بلدات المحافظة بداية عام 2023 حملة جمع تبرعات واسعة لتشغيل الخدمات وإصلاح آبار المياه وترميم المدارس، بعد أن لم تقم الدولة بهذه المهمة.

وعلى المستوى القضائي، فقد ظهرت إلى جانب مؤسسات القضاء التابعة للنظام لجان قضائية محلية غير رسمية، وهي استمرار للشبكات الثورية والاجتماعية القديمة، ونشطت خاصة في حل الخلافات المحلية والقضايا المتعلقة بالمجموعات المحلية المسلحة في مناطقها، وأبرزها اللجنة الشرعية في ريف درعا الغربي، التي أصدر وجهاء 9 بلدات في ريف درعا الغربي بيانًا بكونها المؤسسة القضائية الوحيدة التي يحق لها استدعاء أي مطلوب من أبناء هذه القرى.

لا يمكن الحديث هنا عن أن النظام لا يحكم محافظة درعا، ولا عن أنه يحكمها، فنموذج السيطرة الهجينة والمتداخلة بقي مستمرًا منذ اتفاقية التسوية وحتى هذه اللحظة. ولكن المناطق التي كانت خارج سيطرة النظام قبل اتفاقية التسوية، شهدت بشكل خاص مستوى أعلى من الحكم المحلي خارج مؤسسات النظام، ورغم دخول مؤسسات النظام بعض هذه المدن والبلدات بنسب متفاوتة، فإن حضوره يكاد يغيب تمامًا عن مناطق مثل درعا البلد وطفس، إلا في أوقات الحملات العسكرية عليها.

درعا: الدليل الحيّ
يبدو مشهد الجنوب السوري، الأكثر تعقيدًا بين المناطق السورية المختلفة، وذلك بسبب الوضع الذي نتج عن اتفاق التسوية، الذي أوجد سيطرة متداخلة واستمرارًا للصراع، ولكن بوسائل أخرى عديدة، وفوضى أمنية، وتدخل أطراف مختلفة كانت هامشية سابقًا، فضلًا عن الأطراف الجديدة، إلى جانب التأثير الإقليمي والدولي الذي ساهم في منع عودة الحرب الواسعة هناك.

أسس التكيّف مع الوضع الجديد بعد اتفاق التسوية نموذجًا جديدًا غير مسبوق في سوريا، واختلفت المواقف حول طبيعة التكيف المثلى مع الوضع الجديد، فاختار قسم من المجموعات الثورية التهجير بدلًا من التسوية والتعامل مع النظام، وتنوعت مواقف القسم الباقي، فاختارت اللجان المركزية الطريق التفاوضي مع روسيا والنظام مع الحفاظ على توجهها المعارض للنظام وخيار السلاح عند الضرورة، واختار قسم ثانٍ أن ينضم إلى أجهزة النظام الأمنية والعسكرية ويصبح ذراعًا لها.

واختار قسم ثالث اللواء الثامن بديلًا محليًّا عن النظام وعن المواجهة، ورفض قسم آخر اللجان المركزية بسبب خيارها التفاوضي أو بسبب التنافس المحلي على الحكم وضبط المشهد في هذه المناطق. كما نشطت في الوقت نفسه، خلايا تنظيم الدولة وعصابات جريمة منظمة ومجموعات خارج الكيانات السابقة، إضافة إلى نشاط المليشيات الأجنبية المدعومة إيرانيًّا في أوقات الحملات العسكرية، وإن كان نشاطها لم يخترق الحياة المدنية في المحافظة كما فعلت في شرق سوريا مثلًا.

حافظت درعا على هويتها السياسية بوصفها محافظة رافضة للنظام، وتمكنت من تنظيم استدامة هذه الهوية السياسية للمجتمع عبر تنظيم الشبكات الثورية والاجتماعية. إلا أنه رغم ثنائية الصراع الرئيسة هذه بين الثورة السورية ونظام الأسد، فإن تعدد التصنيفات والجماعات صنع العديد من الصراعات الهامشية، التي غذّاها عدم وجود سلطة مركزية أو استقرار أمني أو ارتياح اقتصادي؛ مما أبقى وضع الفوضى الأمنية مستدامًا أيضًا.

يقدم المشهد المتداخل وغير المستقر في محافظة درعا دليلًا حيًّا على عجز النظام السوري عن فرض سيطرته على المناطق التي شاركت في الثورة عليه، دون عملية تهجير واسعة للأهالي والفاعلين. ويمثل أيضًا دليلًا على عدم قابلية أو إرادة المصالحة بين المجتمع والسلطة من قبل الطرفين في الحواضن الاجتماعية المسيّسة. كما يقدم دليلًا على استثمار النظام في الفوضى والانفلات الأمني وتغذيتهما؛ مما راكم حالة اليأس والهجرة من المحافظة بشكل متصاعد بعد الحملات العسكرية، وقدّم نقضًا لفرضية قابلية اللاجئين السوريين للعودة إلى المناطق التي انتهت الحرب فيها لصالح النظام السوري. ويمثل هذا المشهد في النهاية إثباتًا لاستدامة الهويات السياسية والانقسامات الجذرية التي نشأت بعد الثورة السورية ضد نظام.

 

المصدر : الجزيرة

Continue Reading

أخبار الشرق الأوسط

هل الضربة الحوثية لإسرائيل والردّ عليها سيغيّران في مسار الحرب؟!

Avatar

Published

on

لا يبدو أنّ الضربة الحوثية لإسرائيل والردّ عليها سيغيّران في مسار الحرب. ويجوز لنا وقد اقتربت نهايات هذه الحرب المدمّرة أن ندلي ببعض التوقّعات أو النتائج، وأهمّها ضخامة خسائر الفلسطينيين في القطاع والضفّة، وخسائر حماس والتنظيمات الأخرى، وهي كبيرة. والإسرائيليون الذين قتلوا كثيراً لن يكونوا آمنين إن لم يوافقوا على دولة فلسطينية. ويستطيع الإيرانيون القول إنّهم كسبوا الشراكة الدائمة في القضية الفلسطينية، كما كسبوا اضطرار الولايات المتحدة إلى مراعاة جانبهم هم وميليشياتهم في مقبل السنين.

Follow us on Twitter 

الطريف أنّه عندما كانت إحدى مسيّرات الحوثيين تصل إلى تل أبيب وتقتل خمسينيّاً، كان رئيس الأركان الأميركي يصرّح أنّ الفريق الأميركي/البريطاني المسمّى: حارس الازدهار ليس كافياً لإخماد التحدّي الحوثيّ بالبحر الأحمر وخليج عُمان والمحيط الهندي، وأنّه لا بدّ من السياسة والدبلوماسية للإقناع بوقف الهجمات التي أزعجت التجارة الدولية وأمن البحار. لا نعرف بالتحديد ماذا كان القائد الأميركي يقصد بالإجراءات التكميلية اللازمة لكفّ إصرار الحوثي: هل يقصد التفاوض في مسقط مع الإيرانيين وبينهم حوثيون أم يقصد تقديم “الإغراءات” لهم على الأرض وفي المفاوضات اليمنية – اليمنية الجارية تحت عيون المبعوث الأميركي والمبعوث الدولي؟

عندما احتفل الحوثيّون والإيرانيّون

كان الحوثيون يصرّحون أنّ هجماتهم دخلت المرحلة الرابعة التي تعني التحرّك في البحر المتوسط أيضاً. وقد صرّح الإسرائيليون بعدما ضربوا ميناء الحديدة أنّهم صبروا على مئتين وخمسين ضربة حوثية لم نسمع عنها شيئاً لأنّه يبدو أنّها ما كانت تصل إلى أراضي دولة الكيان!

لقد احتفل الحوثيون والإيرانيون والحزب بالإنجاز. وقالوا بعد الضربات الإسرائيلية إنّهم لن يتوقّفوا على الرغم من الخسائر الكبيرة والقتلى والجرحى. فهل سيغيّر التدخّل الحوثي في المشهد الجاري منذ أكثر من تسعة أشهر؟

لقد احتفل الحوثيون والإيرانيون والحزب بالإنجاز. وقالوا بعد الضربات الإسرائيلية إنّهم لن يتوقّفوا على الرغم من الخسائر الكبيرة والقتلى والجرحى

الأميركيون ووزير الدفاع الإسرائيلي ذهبوا إلى أنّ المفاوضات مع حماس من خلال قطر ومصر ستصل إلى نهايات واعدة خلال أيام. وقد انحصرت الخلافات بعد الاتفاق على كلّ شيء في مصائر معبر فيلادلفي الذي لا يريد الإسرائيليون الانسحاب منه، كما لا يريدون تسليمه لشرطةٍ من عند حكومة أبي مازن. وهناك خلافٌ آخر يتعلّق بالانتشار الإسرائيلي في وسط القطاع وقسمة غزة إلى طرفين لا يلتقيان: فهل يكون الحلّ في إحلال جنود أميركيين في الموقعين؟ الأميركيون لا يريدون ذلك، والإسرائيليون يتحدّثون عن إمكان الاستعانة بقوّةٍ أوروبية بعد وقف إطلاق النار!

من الخاسر الأوّل؟

يومُ ما بعد وقف النار يبعث على الخطورة والترقّب. لكن هل يمكن الحديث الآن عن نتائج الحرب أو من انتصر ومن خسر؟ الخاسر الأوّل بالفعل الشعب الفلسطيني وليس في غزة فقط التي فقدت العمران والإنسان، بل وفي الضفة الغربية التي قُتل فيها المئات، وزاد الأسرى على عشرة آلاف، وأُضيفت إليها أعباء عشرات المستوطنات إلى مئاتٍ أخرى يسكنها مئات الألوف. والخاسر الثاني بالطبع أيضاً حماس والفرق المقاتلة الأُخرى التي فقدت الآلاف من عسكرها وفدائيّيها.

الحرب

أمّا إسرائيل، وعلى الرغم من أنّ خسائرها العسكرية والاقتصادية هائلة من وجهة نظرها، فإنّها لم تنتصر، ليس بسبب أنّ حماساً وحلفاءها ما يزالون يقاتلون، بل ولأنّ المستقبل يقول منذ الآن إنّ أحداثاً مشابهةً يمكن أن تتجدّد على الكيان إلى ما لا نهاية، وبخاصّةٍ أنّ نتنياهو واليمين لا يريدون دولةً فلسطينيةً مهما كلّف الأمر.

لا يبدو أنّ الضربة الحوثية لإسرائيل والردّ عليها سيغيّران في مسار الحرب

ماذا عن الطرف الإيراني وحلفائه من الميليشيات المنتشرة على حدود الكيان؟ ولست أقصد لبنان واليمن والعراق وسورية، بل ما يراه المراقبون أنّ إيران صارت أكثر تحكّماً بالملفّ الفلسطيني، وليس بسبب الحزب فقط بل وبسبب حماس وبعض الميليشيات. لقد تبيّن أنّ “رجولة” الحزب في المواجهة والصبر على الخسائر ليست فريدة، بل هناك أيضاً الحوثي الذي يستطيع الإضرار بالولايات المتحدة وبريطانيا والمصالح البحرية لسائر الأمم. ثمّ إنّ التفاوض لا ينجح إلا بحضور إيراني من نوعٍ ما، وأمل وطموح بشأن النووي وبشأن الحصار الاقتصادي.

لقد ظنّ المراقبون أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يريد الهدنة، ويريد الانتصار المطلق الذي يُزيل حماساً، بيد أنّ الضربات على الحديدة تزيد من اشتعال الحرب، ولن تُكسب إسرائيل المزيد على أيّ حال، كما أنّ الإسرائيليين في غالبيّتهم يريدون وقف الحرب.

إنّها حرب هائلة خسر فيها الفلسطينيون، وحقّق الآخرون إنجازات خالطتها آلام وتضحيات. وبغضّ النظر عمّا يريده نتنياهو حقّاً، ستتوقّف الحرب، لكنّ اليوم التالي بعد الحرب سيكون أصعب وأصعب. فهل كان للإقدام على الحرب معنى؟

أساس ميديا

لمتابعة الكاتب على X:

@RidwanAlsayyid

Continue Reading

أخبار الشرق الأوسط

هل هم الكيان أم نحن؟! — شأن هذا الانفصال تعميق وتسريع ديناميّات الحرب الأهليّة

Avatar

Published

on

بالصدفة أعادتني مجريات الانتخابات الأميركية إلى بعض ما يدور في لبنان. ‏استوقفتني عبارة مهمّة في خطاب جي دي فانس، الشابّ الذي اختاره المرشّح الجمهوري دونالد ترامب ليكون نائباً له في تذكرة الانتخابات الرئاسية الأميركية. قال فانس مخاطباً جماهير المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري إنّ “الناس لا يقاتلون ويموتون من أجل مفاهيم مجرّدة، لكنّهم سيقاتلون دفاعاً عن بيوتهم وأوطانهم”.

Follow us on twitter‏

أهمّية هذه الفكرة التي قالها المرشّح لنيابة ترامب، أنّها تصيب عمق الحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي التي جعلت الانتخابات الرئاسية تدور حول “إنقاذ الديمقراطية”، وأنّ ترامب هو عدوّها. فكرة مجرّدة معزولة عن مشاكل الأميركيين اليومية، التي يتقن دونالد ترامب تسليط الضوء عليها. سواء كانت اقتصادية أو تتعلّق بالهويّات. لا سيّما ما يدور حول الجنس والجندر والتعليم، وباقي الأفكار الجديدة المقلقة للأميركيين والتي يتبنّاها اليسار التقدّمي.

قبل عام 2000، تمحورت فكرة المقاومة حول الكفاح من أجل التحرير، وهو هدف ملموس وحقّ لا ينازع بسهولة

نبّهني كلام جي دي فانس عن الانفصال بين الأفكار السامية والحاجات الواقعية على الأرض، إلى التحوّلات التي أصابت الحزب وفكرة المقاومة ونقلتها من قضيّة ملموسة وموحّدة نسبياً إلى مفهوم مجرّد يثير المزيد من الانقسام بين اللبنانيين.

“البارومتر العربيّ”: لا ثقة بالحزب

قبل عام 2000، تمحورت فكرة المقاومة حول الكفاح من أجل التحرير، وهو هدف ملموس وحقّ لا ينازع بسهولة، حتى ولو اختلف اللبنانيون على ما يسمّى قرار المقاومة أو مرجعيّتها. عنت المقاومة حينها القتال من أجل الوطن والقرى والبلدات التي كانت مُحتلّة في جنوب لبنان وبقاعه الغربي، والسيادة والكرامة وغيرها من المفاهيم التي أسّست لسردية قويّة ومقنعة.

ولم يكن من باب الصدفة أن يحصل التصادم الأوّل بين جزء من اللبنانيين والحزب وسوريا في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في أيار من عام 2000، وهو ما وضع مسألة السلاح على طاولة البحث الوطني.

حين أدخل الحزب لبنان واللبنانيين في حرب تموز 2006، ‏ وجّه أوّل ضربة حقيقية لسردية المقاومة التي تحصّن بها

والحال، قلّة يجب أن يفاجئها ما كشفه استطلاع لآراء اللبنانيين أجرته مؤسّسة “الباروميتر العربي” من أوائل العام الجاري عن تزايد استياء اللبنانيين من الحزب. فحسب النتائج يثق 30% من اللبنانيين فقط بالحزب، بينما لا يثق به على الإطلاق 55% من المستطلَعين. علاوة على ذلك فإنّ 42% يعارضون بشدّة فكرة أنّ مشاركة الحزب في السياسة الإقليمية تفيد العالم العربي.

نهاية ارتباط مصالح اللّبنانيّين بالحزب

حين أدخل الحزب لبنان واللبنانيين في حرب تموز 2006، ‏ وجّه أوّل ضربة حقيقية لسردية المقاومة التي تحصّن بها. ‏كانت هذه الحرب التي تسبّب بها الحزب نذير البدايات المشؤومة لمشاركته في الصراعات الإقليمية. سيدخل الحزب لاحقاً في حرب نظام الأسد ضدّ شعبه تحت راية الدفاع عن “المراقد الشيعية المقدّسة”. وهو أحد أكثر العناوين تجريداً وانفصالاً عن مصالح اللبنانيين وقضاياهم الحياتية واليومية.

وحين أعلن نصرالله مساندة حزبه للحوثيين في الحرب اليمنيّة – السعودية، بعد انقلاب الحوثيين على العملية السياسية واحتلال صنعاء، لم يعثر اللبنانيون على دليل واحد يربط بين مصالح بيروت وما يحصل في دولة بعيدة كلّ البعد عن وعيهم ووجدانهم العامّ.

لم يفهم كثير من اللبنانيين، بما في ذلك أهل الجنوب، منطق نصرالله هذا حتى يومنا

ولكي يردم نصرالله هذه الفجوة ذهب كعادته إلى أعلى مستويات المبالغة الخطابية فقال بعد سنة من بدء هذه الحرب:

“إذا سألتني عن أشرف ما قمت به في حياتي وأفضل شيء وأعظم شيء، فسأجيب: الخطاب الذي ألقيته ثاني يوم من الحرب السعودية على اليمن.. أشعر أنّ هذا هو الجهاد الحقيقي، هذا أعظم من حرب تموز”.

رفع جرعة “التّجريد”… تسريع الحرب الأهليّة

لم يفهم كثير من اللبنانيين، بما في ذلك أهل الجنوب، منطق نصرالله هذا حتى يومنا. في حين تزداد جرعة التجريد في معارك الحزب التي تتمحور أكثر حول المعارك الأيديولوجيّة في أراضٍ بعيدة جغرافيّاً وأبعد عن اهتمامات اللبنانيين ومصالحهم.

لا تتعلّق المسألة هنا بالعلامة التجارية للحزب. فهم هذا التحوّل أمر بالغ الأهمّية لتحليل الديناميّات الحالية لعلاقة الحزب ببقيّة اللبنانيين. فكلّما كفّت المقاومة عن كونها فكرة ملموسة قادرة على تأمين حدّ صحّي من وحدة اللبنانيين حولها، وصارت مفهوماً مجرّداً مغلقاً، زاد الانفصال حدّةً بين الناس وتآكلت قدرتهم على تلمّس بعضهم معاناة بعضٍ.

من شأن هذا الانفصال تعميق وتسريع ديناميّات الحرب الأهليّة، وإغراق لبنان في آخر الاختبارات التي تضمن نهايته التامّة والناجزة.

أليس من المفارقات أنّ السيد حسن نصرالله الذي يصف إسرائيل بأنّها كيان، هو نفسه أكثر من ساهم في إفقاد لبنان كلّ ما يتّصل بفكرة الدولة!

يتبجّح الحزب بأنّ قوّة المقاومة هي التي فرضت ترسيم الحدود البحرية، في حين لم يبقَ للبلد أدلّة أخرى على كونه دولة. فلا عملة حقيقية ولا جواز سفر ولا مؤسّسات دستورية واقعية ولا شيء.

كأنّ التجريد انسحب على البلاد نفسها، التي باتت من باب التجريد نفسه تسمّى “دولة”.

أساس ميديا
لمتابعة الكاتب على X:
@NadimKoteich

Continue Reading

أخبار الشرق الأوسط

قرارُ مَحكمةِ العَدلِ الدولية يَمنَحُ الفلسطينيين بعضَ الأمل، ولكن…

Avatar

Published

on

في حين أنَّ الظروفَ على الأرض لا تزالُ مُزرِية، فإنَّ حُكمَ محكمة العدل الدولية يُقدِّم للفلسطينيين أداةً مُفيدةً لحَشدِ الضغطِ الدولي ضد إسرائيل – وربما هو الطريق الوحيد للمضي قُدُمًا.

عمر حسن عبد الرحمن*

في حُكمٍ تاريخي، اعتبرَت أعلى محكمة في العالم أنَّ الاحتلالَ العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ 57 عامًا غير قانوني وأمرت إسرائيل بإنهاء وجودها هناك، بما في ذلك جميع مستوطناتها ومستوطنيها، “في أسرعِ وَقتٍ مُمكِن”. كما ألزمَ القرارُ المؤلَّفُ من تسعِ نقاطٍ الصادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي إسرائيل بدَفعِ تعويضاتٍ لسكان الأراضي الفلسطينية المحتلة، ودعا دول العالم والمنظمات الدولية إلى الامتناعِ عن مساعدةِ إسرائيل في الحفاظِ على وجودها هناك.

Follow us on Twitter

وجاءَ حُكم المحكمة، في 19 تموز (يوليو)، استجابةً لطلبِ الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول (ديسمبر) 2022 لإصدارِ رأيٍ استشاريٍّ بشأنِ التَبِعاتِ القانونية لاحتلال إسرائيل الذي طال أمده، فضلًا عن إنكارها لحقِّ الفلسطينيين في تقريرِ المصير، وسياساتها الاستيطانية والضمّ، وتشريعاتها التمييزية، وجهودها لتغيير التركيبة السكانية للمناطق التي تحتلها، وخصوصًا القدس الشرقية.

في شباط (فبراير) من هذا العام، قدّمَت 52 دولة وثلاثُ منظّماتٍ دولية مُرافعاتها أمام المحكمة، وهو عددٌ أكبر من أيِّ قضيةٍ أُخرى شهدتها محكمة العدل الدولية في تاريخها الذي يبلغ 78 عامًا، وكُلُّها تقريبًا كانت نيابةً عن فلسطين. وقاطعت إسرائيل الإجراءات.

أملٌ في المُساءلة؟

أساسًا، وَجَدَت المحكمة أنَّ إسرائيل تَنتَهِكُ التزاماتها كقوّةِ احتلال بطُرُقٍ عدة، وأنَّ احتلالها غير القانوني يَحرُمُ الفلسطينيين من حقّهم الأساسي في تقريرِ المصير، وأنَّ النظامَ الحالي ينتهِكُ الحظرَ المفروض على التمييزِ والفَصلِ العُنصُرِيَين.

في الواقع، يُشَكّلُ هذا الحُكمُ ضربةً قويةً لإسرائيل ومؤيديها الذين يتعرَّضون أصلًا لضغوطٍ هائلةٍ بسببِ سلوكِ إسرائيل العسكري في غزة، حيث قتلت خلال تسعة أشهر ما لا يقل عن 40 ألف شخص –معظمهم من النساء والأطفال– وشرّدت وتسبّبت في تجويع الملايين، ودمّرت جُزءًا كبيرًا من البنية التحتية والمنازل في القطاع. في كانون الثاني (يناير)، قضت محكمة العدل الدولية بأنَّ إسرائيل تُخاطِرُ بارتكابِ إبادةٍ جماعية. ومنذ ذلك الحين، تجاهلت الدولة العبرية تمامًا الإجراءات التي أمرت بها المحكمة لتَجَنُّبِ ارتكابِ أخطرِ الجرائم. وفي حزيران (يونيو)، طلبَ المُدَّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وهي المحكمة الشقيقة لمحكمة العدل الدولية، أوامر باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت للاشتباه في ارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة.

لا شكَّ أنَّ القرارَ الأخير لمحكمة العدل الدولية هو نَصرٌ كبيرٌ للقضية الفلسطينية ويجلب العون والأمل في لحظةٍ عصيبة من تاريخها. لقد ناضلَ الفلسطينيون منذ فترة طويلة من أجلِ مُحاسَبةِ إسرائيل على حرمانهم من حقوقهم الوطنية. ومن الممكن أن يكون رأي محكمة العدل الدولية بمثابةِ رصيدٍ مُفيدٍ في هذا الصدد، شريطة الاستفادة منه لحشدِ ضغوطٍ دولية ذات معنى.

وفي حين أنَّ الحُكمَ هو رأيٌ استشاري غير مُلزِم، إلّا أنَّهُ لا يزالُ له وزنه داخلَ النظامِ الدولي بسببِ مكانةِ المحكمة. وفي نقطتها الأخيرة، دعت محكمة العدل الدولية الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي إلى “النظر في الأساليب الدقيقة والإجراءات الإضافية المطلوبة” لإنهاءِ الاحتلال الإسرائيلي بسرعة.

قد يدفعُ هذا القرارُ الدولَ، وخصوصًا الكبرى منها، إلى تكثيفِ الضغوط على المشروع الاستيطاني الإسرائيلي. وقد نشرت الأمم المتحدة في العام 2020، “قائمة سوداء” تضمُّ أكثر من 100 شركة عاملة في المستوطنات، تحقيقًا لهذه الغاية. لكن من غير الواضح ما إذا كانت الدولُ ستَعتَبِرُ حُكمَ المحكمة الأخير التزامًا بقطعِ العلاقاتِ مع إسرائيل بالكامل. وفي حين أشارَ القضاة بوضوح إلى وجودِ صلةٍ بين إسرائيل والأراضي المحتلة بقولهم إن إسرائيل قامت بالفعل بضمِّ الأراضي المحتلة، إلّا أنهم لم يعترفوا صراحةً بأنَّ وجودَها في الأراضي المحتلة أصبح لا يُمكِنُ تمييزه عن بقية الدولة.

حقائق على الارض

في اليوم السابق للحُكم، أصدرَ الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) قرارًا أعلنَ فيه “معارضته الحازمة لإقامةِ دولةٍ فلسطينية”، على أساسِ أنَّ ذلك “سيُشَكِّلُ خطرًا وجوديًا على إسرائيل ومواطنيها، ويؤدّي إلى إدامةِ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وزعزعة استقرار المنطقة”. في الواقع، إنَّ الطبقة السياسية في إسرائيل بأكملها أعلنت من خلال ذلك أنها لا تنوي الخروجَ من الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

التصويت، الذي تمّت الموافقة عليه بغالبية 68 صوتًا ومعارضة تسعة –جميعهم أعضاءٌ عرب في الكنيست– وامتناع 43 عضوًا عن التصويت، جاءَ وسط تجدُّدِ الدعوات الدولية لإقامةِ دولةٍ فلسطينية. وتسعى القوى العالمية جاهدةً من أجل المضي قدمًا لإيجادِ المسارِ في اليوم التالي في غزّة بمجرّد انتهاءِ الأعمال العدائية، وقد اعترفت دولٌ متعددة بفلسطين منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بما فيها إيرلندا وبلجيكا وإسبانيا. ويُفيد بعضُ التقارير بأنَّ اليابان وكوريا الجنوبية على وشكِ أن تحذوا حذوها، مما سيصل مجموع الدول المُعتَرِفة بدولة فلسطين إلى 147.

قدّمَ  القرار إلى الكنيست حزب المعارضة اليميني، “حزب الأمل الجديد–اليمين المُتّحد”، الذي قال رئيسه جدعون ساعر أنَّ “القرارَ يهدفُ إلى التعبير عن المعارضة العامة الموجودة بين الشعب (الإسرائيلي) لإقامةِ دولةٍ فلسطينية، الأمر الذي من شأنه أن يُعرِّضَ أمنَ ومستقبلَ إسرائيل للخطر”. ويوجّه القرارُ رسالةً إلى المجتمع الدولي مفادها أنَّ “الضغطَ من أجلِ فَرضِ دولةٍ فلسطينية على إسرائيل لا طائلَ منه”. كما صوّتَ الوزير السابق بيني غانتس، الذي يعتبره الكثيرون في الغرب البديل الأكثر قبولًا من بنيامين نتنياهو، لصالحِ القرار.

ودعا وزير المالية الإسرائيلي البارز بتسلئيل سموتريتش، نتنياهو إلى الردِّ على حُكمِ محكمةِ العدلِ الدولية بضمِّ الضفة الغربية رسميًا. ويحرُصُ القادةُ الإسرائيليون على تذكيرِ الفلسطينيين ومُنتقدي إسرائيل في الخارج بأنهم هم الذين يسيطرون على الوضع على الأرض.

في هذا العام، صادرت إسرائيل المزيد من الأراضي المحتلة مُقارنةً بأيِّ فترةٍ أخرى منذ توقيع اتفاقيات أوسلو في العام 1993. وقد بلغ عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين أعلى مستوياته على الإطلاق، وتم طرد أكثر من عشرة مجتمعات فلسطينية في الضفة الغربية قسرًا من أراضيها منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). في الواقع، استخدَمَ الوزراء الإسرائيليون من اليمين المتطرِّف الأزمة الحالية كغطاءٍ لإجراءاتٍ غير عادية لدمجِ الأراضي المحتلة في الدولة ونقل السلطات من السيطرة العسكرية إلى السيطرة المدنية.

تغييرُ هيكلِ الحوافز

بينَ قرارِ محكمة العدل الدولية، وقرارِ الكنيست، والأرض المحروقة في غزة، أصبحَ المسرحُ مُمَهَّدًا للمرحلةِ التالية من المواجهة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

في الواقع، لقد تجاوزَ الاحتلالُ نقطةَ اللاعودة منذ فترة طويلة، بمعنى أنَّ إسرائيل نجحت في بناءِ مشروعٍ استيطاني مُصَمَّمٍ بحيثُ يكون من المستحيل دحره سياسيًا. وبعد نصف قرن من الاستثمارِ المُكَثَّفِ في مشروعِ الضمِّ والإفلاتِ شبه الكامل من العقاب على انتهاكاته للقانون الدولي، انقلبَ هيكلُ الحوافز لصُنعِ السلام رأسًا على عقب. إنَّ القوى المؤيِّدة للضمِّ قويةٌ جدًّا والمصالح الخاصة راسخة للغاية. وتعتقدُ غالبيةٌ ساحقةٌ من الإسرائيليين الآن أنَّ الدولةَ الفلسطينية سوف تُشَكِّلُ تهديدًا مُتأصِّلًا لأمنهم. إنَّ حقيقةَ عدم تصويتِ أيِّ عضوٍ يهودي في الكنيست لصالحِ حلِّ الدولتَين هي أحدثُ دليلٍ على ذلك.

إنَّ تغييرَ هذه الديناميكية سوفَ يتطلَّبُ تحوُّلًا كبيرًا في الحسابات الحالية للتكاليف والفوائد بين الساسة الإسرائيليين والجمهور الإسرائيلي. وهذا لا يُمكِنُ أن يأتي إلّا من خلالِ حشدِ ضغوطٍ عقابية كبيرة على إسرائيل.

مع ذلك، فإنَّ السُبُلَ المؤدّية إلى المُساءلة والضغط والتغيير ليست واضحة، وبالتأكيد ليست مضمونة. تتمتّعُ إسرائيل بحمايةِ ودَعمِ أقوى دولة في العالم، إلى جانب العديد من الدول الأخرى ذات النفوذ. على الرُغمِ من أنَّ الخبراءَ وجماعات حقوق الإنسان قد قدّموا تقاريرَ شاملة عن الطبيعة الإجرامية لنظامِ احتلالها لعقود، فإنَّ إسرائيل حافظت على ما يكفي من حجاب اللياقة والشرعية لإرضاء شركائها.

وعلى الرُغم من حُكمِ محكمة العدل الدولية، فإنَّ الدولَ القوية عمومًا تكون محافظة عندما يتعلّقُ الأمرُ بالمحاكم والقانون الدوليين، خشيةَ أن يُستَخدَما ضدها في مرحلةٍ ما. وقضت محكمة العدل الدولية هذا الشهر بأنَّ الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية غير قانوني ويجب هدمه، لكن إسرائيل لم تُواجِه ضغوطًا تُذكَر للامتثال.

لكن في السنوات الأخيرة، انكشفَ حجابُ لياقة إسرائيل بشكلٍ متزايد وأصبحت نواياها الحقيقية واضحة للعيان. وقد أوضحت الحكومات اليمينية المتعاقبة أنَّ الاحتلالَ ليس مؤقتًا، وأنَّ إسرائيل تعتزمُ ضمَّ الضفة الغربية كُلِّيًا أو جُزئيًّا. وعلى هذا فإنَّ الحُكمَ الإسرائيلي غير الديموقراطي للفلسطينيين يبدو أنهُ مستمرٌ ودائمٌ. وقد دفع هذا العديد من المراقبين –بما في ذلك جماعات حقوق الإنسان المُحتَرَمة عالميًا– إلى الاستنتاج بأنَّ إسرائيل تُمارِسُ جريمة “الفصل العنصري”، حيث تفرُضُ نظامَ تمييزٍ عُنصري لصالح مجموعةٍ على حسابِ مجموعةٍ أُخرى.

في الواقع، ما يَقرُبُ من نصف الدول التي مَثَلَت أمامَ محكمةِ العدل الدولية في شباط (فبراير) قدَّمَت حججًا بشأنِ الفصل العنصري، وفي حُكمها الصادر في تموز (يوليو) ذكرت المحكمة أنَّ إسرائيل تنتهكُ الحظرَ المفروض على الفصل العنصري المنصوص عليه في الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري. .

تعرَّضت صورةُ إسرائيل العالمية لضربةٍ قويةٍ منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). فمن الأحرام الجامعية في الولايات المتحدة إلى المدن في جميع أنحاء العالم، يُعبّرُ الناس عن غضبهم من سياسات إسرائيل في كلٍّ من غزة وفي الأراضي المحتلة بشكلٍ عام. ويبدو احتمالُ المُساءلة واضحًا ربما للمرة الأولى. على الرُغمِ من الكارثة التي تتكشّفُ في غزة وأزمة القيادة في السياسة الفلسطينية، فإنَّ الحُكمَ التاريخي لمحكمة العدل الدولية يمنحُ الفلسطينيين بصيصَ أملٍ في أنهم قد يجدون طريقًا نحو التحرير والحصول على حقوقهم.

  • عمر حسن عبد الرحمن هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية، حيث يُركّزُ على فلسطين والجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة.
Continue Reading