يستغرب كثر ما يسمعونه من كلام متداول في الكواليس السياسية، عن أن باريس لا تزال متمسكة بخيار سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، مقابل نواف سلام لرئاسة الحكومة. ثمة من يعتبر أن الاستنتاج مبالغ فيه، فيما يضعه آخرون في سياق محاولة استطلاع فرنسية لهذه المعادلة. ويذهب طرف ثالث إلى القول إن هذا الاستطلاع ينطوي على نوع من الترويج لهذا الطرح. ويبحر من يستنتج في التحليل والتقدير، باعتبار أن هذا الموقف الفرنسي ينطلق من مقاربة واقعية تفرضها التوازنات السياسية في البلاد. فيما هناك قراءة أخرى تشير إلى أن المسألة ترتبط ببعض الحسابات المصلحية من لبنان إلى سوريا وصولاً إلى إيران.
المبادرة الفرنسية وتحولاتها
من التقى مسؤولين فرنسيين في لبنان أو في باريس، سمع مثل هذه الخلاصات أو الاستنتاجات أو الذي يحاول الفرنسيون تغليفه بتوصيفه “استطلاعاً”. وهو يدفع اللبنانيين بالإضافة إلى ديبلوماسيين آخرين إلى الاستغراب، على قاعدة أنه تم الاتفاق في اجتماع باريس على تحديد مواصفات رئاسية، فيما عاد الفرنسيون وتخلّوا عنها. يدفع هذا السجال الدائر والذي تضجّ به الكواليس الديبلوماسية للعودة بالزمن إلى الوراء، عند إطلاق المبادرة الفرنسية والتي تحولت وتغيرت وتخلّت عن معاييرها منذ إطلاقها خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، بعيد تفجير مرفأ بيروت. فتدحرجت المبادرة من خطة شاملة للإنقاذ السياسي إلى التخلي عن بنودها شيئاً فشيئاً. وغالباً ما كانت تصطدم المبادرة بمعايير تتخذ طابعاً شخصياً أيضاً، كما حصل خلال تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة، وإصرار الفرنسيين على عقد لقاء بينه وبين رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل في حينها، للبحث في معالجة الأزمة الحكومية، وبنتيجة عدم استجابة الحريري تعثّر مسار تشكيل الحكومة واعتذر.
مصالح واستثمارات
من دواعي الاستغراب أيضاً، هو إن كان موقف فرنسا -كما أي دولة أخرى- نابع من حرصها على مصالح استراتيجية في لبنان، إلا أن الجواب على ذلك كان واضحاً في الاجتماع الخماسي بالعاصمة الفرنسية، بأن أي رئيس سينتخب لن يكون على صدام مع فرنسا، ولن يسهم في تعطيل مصالحها، وبالتالي، المصالح لا ترتبط بالأشخاص المرشحين. في السياق، فإن بعض المغالين في الاعتراض على المعادلة الفرنسية (خصوصاً أن الكثير من الأفرقاء اللبنانيين قالوا صراحة إن بعض الديبلوماسيين قد طرحوا عليهم فكرة المقايضة، وهي مرفوضة بالأساس)، يعتبرون أن ما يحيط بالتحرك الفرنسي هو جملة من المصالح والاعتبارات، والتي لا تتوقف عند حدود طموحات شركة توتال، ولا عند طموحات شركة cma cgm، في الاستثمار بمرفأ بيروت وتشغيله وإعادة إعماره، وكذلك لناحية الاستثمار في مرفأ طرابلس. وهو الدور الذي أداه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بكل أمانة، فحظي بإشادة فرنسية أكثر من مرة، وكانت آخرها على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
يعتبر المعترضون على الأداء الفرنسي أن الحسابات التي تتحكم بمسار السياسة الفرنسية لبنانياً، لا ترتبط فقط بحسابات لبنانية لها صلة بمسألة التنقيب عن النفط والغاز، ولا بالعودة إلى عرض قدّم سابقاً من إحدى الشركات، التي تخوض غمار تشكيل لوبي قوي داعم لرئيس تيار سياسي في معركته الرئاسية، لا سيما أن هذا العرض كان ينص على تحمّل تلك الشركة تكاليف عمليات التنقيب واستخراج الغاز من البلوكات اللبنانية، على أن يستعيد تلك المبالغ بعد بدء التصدير مع نسبة من الأرباح. كما أن حساباتها تتخطى الطموحات في سوريا مستقبلاً أو في السوق الإيراني، لتطال أفريقيا ونيجيريا تحديداً، نظراً لعلاقة صاحب الشركة بالرئيس النيجيري.
الاختلاف السعودي الفرنسي
في كل الأحوال، تبقى كل هذه النقاشات جزءاً من اليوميات اللبنانية والتي خبرها اللبنانيون على مدار سنوات طويلة، تتكرر عند كل محطة أو مفصل. وها هي اليوم تتبدى في الاختلاف الفرنسي السعودي، والذي ظهر في مرحلة ما بعد اجتماع باريس. إذ يعتبر السعوديون أن الفرنسيين قد غيروا موقفهم أو تخلوا عن ما اتفق عليه. وربما هذا ما يبرر السبب الذي حال يومها دون إصدار بيان عن الدول الخمس. لا سيما أن باريس أيضاً كانت قد طرحت مسألة المقايضة، وفق معادلة سليمان فرنجية مقابل نواف سلام. أو قائد الجيش جوزيف عون مقابل نجيب ميقاتي في رئاسة الحكومة. علماً أن تلك المقايضة بقيت مرفوضة. فيما يستمر السعي إلى عقد اجتماع آخر للدول الخمس في المرحلة المقبلة، إما قد يعقد في الرياض أو في باريس مجدداً.
من هنا، تبرز وجهة نظر مختلفة للرد على كل هذه السجالات والنقاشات، وتعتبر أن لبنان حالياً هو في مرحلة جديدة، معاييرها مختلفة وصراعاتها مختلفة أيضاً، لا سيما أن التحديات لم تعد مقتصرة فقط على من يوالي السعودية ومن يوالي إيران.. إنما هناك أزمات بنيوية تطال لبنان كدولة، ولا بد من وضع رؤية لكيفية التعاطي معها، لأن عمق الأزمة لا يمكن أن يعالج بالاصطفاف السياسي التقليدي. وهو ما يفترض أن ينعكس على تشكيل الفريق الذي ستناط به مسؤولية العمل على الإنقاذ، من خارج القوى التقليدية. خصوصاً أن القوى السياسية الموجودة حالياً في حالة انكشاف وعجز، على الرغم من كل الفرص التي أعطيت لها منذ سنوات. فهي إما لا تريد أن تقوم بأي فعل، أو أنها عاجزة، وبالتالي هي تفتقد لأي مقومات للخروج من الأزمة. وهو يعني أن السلطة ستكون مجبرة على تقبل الشروط الخارجية لمسار المعالجة، بغض النظر عن تفاصيل الأشخاص.
أما الخيار الآخر فهو بقاء القوى على الآلية نفسها في تشكيل السلطة. وهذا يعني أن العجز سيكون مستمراً، وبالتالي فإن الأزمات ستكون متوالية. ويعني ذلك أن القوى المنتجة للصراعات لن تكون مؤهلة للعب دور الإنقاذ، فيما عملية وقف الانهيار تتطلب فريقاً آخر حتى مع بقاء هذه القوى السياسية، ولكن برؤية مختلفة.