أخبار متفرقة

الفساد، الفاسدون والمفسدون في لبنان

لبنان/ أليتيا (aleteia.org/ar) مقولة محاربة الفساد ليست جديدة على لبنان، معظم العهود المتتالية منذ الٳستقلال وحتى الطائف لوّحت بمحاربة الفساد. وبعد الطائف، حيث لم يعد لتسمية “العهد” أي فعالية إجرائية، تبنّت الحكومات المتعاقبة شعار محاربة الفساد، ولكن لم نرى يوماً أي عمل فعلي ولا حتى أي مبادرة في هذا الٳتجاه. مؤخراً، بالرغم من نجاح أكثر من طرف…

Published

on

لبنان/ أليتيا (aleteia.org/ar) مقولة محاربة الفساد ليست جديدة على لبنان، معظم العهود المتتالية منذ الٳستقلال وحتى الطائف لوّحت بمحاربة الفساد. وبعد الطائف، حيث لم يعد لتسمية “العهد” أي فعالية إجرائية، تبنّت الحكومات المتعاقبة شعار محاربة الفساد، ولكن لم نرى يوماً أي عمل فعلي ولا حتى أي مبادرة في هذا الٳتجاه.

مؤخراً، بالرغم من نجاح أكثر من طرف في إلقاء الضوء، بأدلّة وأمثلة، على الكثير من فضائح الفساد (“الأيادي السود” لنجاح واكيم، “الٳبراء المستحيل” لتكتل التغيير والٳصلاح، والكثير من التحقيقات الرصينة لوسائل ٳعلامية مختلفة)، لم نرى أي ردّة فعل ملموسة حزبية، سياسية أو شعبية ولا حتى أي تدبير قضائي من سلطة يفترض أن تكون منزّهة مستقلة ومالكة زمام المبادرة.

هل يعني ذلك أن الفساد تفشّى في جسم الدولة وطال كل سلطاتها ومؤسساتها أفقياً وعامودياً؟

أم أنه في ظلّ نظام إئتلاف الطوائف يستحيل توجيه أصابع الٳتهام بإتّجاه شخصيات بارزة لأنه يتحول تلقائياً الى اتّهام للطائفة بحد ذاتها، كما جرى مع رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة؟

أم أن الفاسدون هم في أعلى المراكز ممّا يجعل من الصعب جداً لمن يجرؤ على مواجهتهم، موظفين أو قضاة، الحفاظ على منصبه، نظراً لتركيبة السلطة في لبنان القائمة على تبعية الموظفين أو حتى القضاة للزعامات السياسو-طائفية     (politico-confessionnelle)؟

أم أن الفساد الموروث من العهد العثماني والمتأصل في الثقافة اللبنانية ، إستفحل وأصبح جزءاً لا يتجزأ منها، شعبياً ومؤسساتياً؟ والمعايير الأخلاقية التي تسوس المجتمعات العريقة والتي تكوّن رادعاً يخشاه القيّمون على مقدّرات الدولة، ويحول دون انسياقهم وراء شهوة المال، لم تعد قائمة في لبنان أو بأحسن الأحوال أصبحت مطّاطة ونسبية؟

أم أن الٳنحلال التدريجي للمجتمع اللبناني تفاقم لدرجة فقد فيها الشعب سلّم القيم وأصبح معها الخطأ صواباً والصواب حماقة، على ما ورد في الكتاب المقدس “…لأنهم عرفوا الله ولم يمجّدوه ولا شكروه كما ينبغي لله، بل تاهوا في آرائهم الباطلة فأظلمت قلوبهم الغبيّة. زعموا أنهم حكماء، فإذا هم حمقى…” روم 1/21-22؟

في الواقع إنها بعض من كل هذه الأسباب لا بل كلّها في آن واحد.

لتسهيل البحث وتماشياً مع الجو الشعبي السائد يمكننا تقسيم المجتمع اللبناني الى جزئين: مسؤولي السلطة والشعب.

بالنسبة للمسؤولين، من هم هؤلاء الذين تداولوا على السلطة من أفراد وأحزاب منذ إتفاق الطائف أو أكثر حصراً، منذ الٳنسحاب السوري وحتى اليوم؟ وهل يصحّوضعهم في خانة واحدة، كما تفعل الغالبية الساحقة من المواطنين عند تحميلهم مسؤولية تردّي الأوضاع؟

في الواقع يتوزّع هؤلاء على فئات ثلاث:

الفئة الأولى- المرتكبون: وهم كل مسؤول أو موظف، مهما علا شأنه، شارك بشكل مباشر أو غير مباشر بأي صفقة على حساب المال العام، أو استفاد منها، هو أو أحد أنسبائه أو أتباع حزبه أو زعامته.

الفئة الثانية- العارفون الصامتون: وهم كل مسؤول أو موظف، مهما علا شأنه، على علم بما ارتكبته الفئة الأولى ولكن لم يحرّك ساكناً، إمّا خوفاً على موقعه أو مصالحه الشخصية أو حتى على حياته، وإمّا لعلمه بضعف تأثيره أو حتى عدمه. تنطبق على المجموعة الأولى منهم مقولة “الساكت عن الحق شيطان أخرس”.

الفئة الثالثة- المغفّلون: وهم كل مسؤول أو موظف، مهما علا شأنه، لم يتنبّه لما يجري حوله من ارتكابات فاضحة ومتكرّرة سبّبت على مرّ السنين باستنزاف مقدّرات الدولة لصالح جيوب أفراد وجماعات. وهو بذلك يرضى لنفسه بصفة المغفّل.

ما يجدر الوقوف عنده هو بأن المفسدين والفاسدين لم يعودوا، من جرّاء فعلهم، لا مسلمين ولا مسيحيين ولا عونيين ولا أمليين ولا إشتراكيين ولا مستقبليين ولا مردة ولا غيرهم. إنّهم، وبحكم الواقع، قد جحدوا بإيمانهم واستبدلوا عبادة الله بعبادة المال. كما وتركوا احزابهم وتياراتهم السياسية والتحقوا بحزب اللصوص. فمن المستغرب إذاً أن تثور الزعامات الطائفية والحزبية عند الظنّ بواحد من أتباعها. بل يجدر بها الٳصرار على محاكمة المتهمين، إما لتثبيت برائتهم أو تبيان زندقتهم وإدانتهم وتنقية الطوائف والأحزاب منهم.

حتى ولو طال الشك والٳتهامات طرفاً سياسياً أو طائفياً واحداً، فعليه الٳمتنان لأن مهمة تنقيته لم تقع عليه، لما لها من تأثير على شعبيته وتركيبته الداخلية، بل جاءت من الخارج لتعود بكل المنفعة عليه. فإذا ثبتت التهمة على أحد أتباعه، يكون قد نقّى بيدره وأزال الوباء من وسطه. وإذا لم تثبت التهمة، فلن تقع عليه إرتدادات هذا الٳتهام وسيظهر للرأي العام بمظهر المنتصر الشريف الطاهر. بخلاف ذلك، نخشى أن تكون حماية المرتكب ما هي إلاّ للتستير عن مرتكب آخر أرفع شأناً وهكذا دواليك.

أمّا بالنسبة للشعب، تكثر الأمثلة والمقولات عن مسؤولية الشعوب عن فساد أسيادها أو القيّمين على شؤونها، على مثال: “كما أنتم يولّى عليكم”، وخاصة في المجتمعات الديمقراطية حيث تتيح الٳنتخابات النيابية محاسبة الحكّام باستبدالهم. فهل هذا ما جرى في لبنان سنة 2018؟ قانون الٳنتخابات النيابية الأخيرة على القاعدة النسبية، بالرغم من الشوائب التي قد نسبت إليه، أتاح فرصة حقيقية لمحاسبة الطبقة الحاكمة وإفساح المجال لطاقات جديدة واعدة للدخول الى معترك الحياة السياسية. لكن المحصلة كانت غير ذلك من خلال عودة نفس الوجوه التي يلقي عليها أكثر اللبنانيون تبعات بلاياهم. ألا تقع مسؤولية ذلك على الشعب اللبناني؟

ما هو مثلاً السبب الكامن وراء إعادة انتخاب أكثر النواب الذين صوّتوا على قانون سلسلة الرتب والرواتب دون دراسة معمّقة لتداعياته على الٳقتصاد الوطني وعلى مستوى معيشة المواطنين وقدرتهم الشرائية. فإذا كان تصويت النواب لصالح هذا القانون نجح في رشوة موظفي القطاع العام قبيل الٳنتخابات، فلماذا لم يكن له أي تأثير سلبي على مئات الآلاف من أهالي طلاب المدارس الخاصة الذين تسبب هذا القانون بزيادة أقساط أولادهم بنسبة مرتفعة جداً. هؤلاء وحدهم كان بإمكانهم إحداث تغيير جذري في مجلس النواب. ففي السنة الدراسية 2009-2010، بلغ عدد طلاب المدارس الخاصة، حسب مديرية الإحصاء المركزي، حوالي 500 ألف. ليس من سبب يدعو لاعتبار أن تغييراً كبيراً قد حصل في هذا العدد منذ ذلك التاريخ وحتى السنة الدراسية 2017-2018 عند إقرار قانون السلسلة.

إذا قمنا بعملية حسابية بسيطة واعتبرنا أن مقابل كل إثنين أو ثلاثة من طلاّب المدارس الخاصة يوجد ناخبان (الأب والأم)، يعني ذلك أن عدد الناخبين المتأثرين سلبياً وبشكل مباشر من قانون السلسلة يبلغ حوالي 200 الف ناخب. ماذا كان لهذا العدد أن يفعل فيما لو جاءت مشاركته في الٳنتخابات النيابية نابعة من معاناته المعيشية وليس من إصطفافه السياسي الطائفي، أو من تراخيه.

ولكن ثقافة التخاذل والإرتخاء، وعذراً على تسميتها “ثقافة الأركيلة” هي السائدة. شعب مخدّر مسيّر، متعلّم ولكن غير مثقّف، متطوّر ولكن غير متمدّن، يفترق في كل شيء ولكن يتوحّد حول جلاّديه.

إنه ليس القدر، فالشعوب الحيّة تصنع قدرها بنفسها، بعرقها وبدمها. إنه زمن أسود سيطول طيلة تغرّب هذا الشعب عن خالقه. وعند عودته عن ضلاله، إن عاد، سينعم الله عليه بقادة غير عميان، يبصرون الحقّ ويمقتون الباطل، ويسيروا به الى برّ الأمان. فلنصلّي الى قديسي لبنان الكثر، الذين أعطوا للبنان مجده على مرّ الأزمان، كي تقصّر هذه الأيام.

 

 

العودة إلى الصفحة الرئيسية

Exit mobile version