أخبار متفرقة
الأب جورج صبحي كيروز:رأيت جهنّم على الأرض والورديّة خلّصتني
لبنان/أليتيا (aleteia.org/ar)لم يكد الكاهن اللبناني جورج صبحي كيروز أن يحطّ رحاله في منطقة بورت هاركورت في نيجيريا حتّى تعرّض لحادثة قلبت حياته رأسًا على عقب. باسم يسوع المسيح وكخادم لرعية القديس نعمة الله الحرديني، وصل الكاهن الماروني جورج إلى هذا البلد الأفريقي ليخدم رعية تجمع العشرات من أبناء الجالية اللبنانية وغيرهم من مسيحيي سوريا وفلسطين.…
لبنان/أليتيا (aleteia.org/ar)لم يكد الكاهن اللبناني جورج صبحي كيروز أن يحطّ رحاله في منطقة بورت هاركورت في نيجيريا حتّى تعرّض لحادثة قلبت حياته رأسًا على عقب.
باسم يسوع المسيح وكخادم لرعية القديس نعمة الله الحرديني، وصل الكاهن الماروني جورج إلى هذا البلد الأفريقي ليخدم رعية تجمع العشرات من أبناء الجالية اللبنانية وغيرهم من مسيحيي سوريا وفلسطين.
الكاهن الخمسيني الذي يُعرف بنشاطه لم يكتف بخدمة رعية القديس نعمة الله حيث كان يقطع مئات الكيلومترات متوجّهًا إلى منطقة إينوغو للاحتفال بالذبيحة الإلهية مرتين في الشهر مع أبناء الجالية اللبنانية المقيمين هناك.
كان الأب جورج يمضي نحو خمس ساعات على طريق وعر محفوف بالمخاطر للوصول إلى إينوغو… وفي الحادي والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2010، كادت ساعات أن تبدّل حياة الكاهن، لا بل وأن تنهيها.
خاص أليتيا:
ما الذي حصل معكم في 21 أيلول/ سبتمبر من العام 2010؟
كان ذلك اليوم يوم ثلاثاء. كنت أهم إلى مغادرة منطقة إينوغو لأعود إلى رعيتي في بورت هاركورك بنيجيريا. أذكر أنّي كنت في عجلة من أمري حيث كان أبناء الرعية بانتظاري لإحياء سهرة تأمل بالإنجيل في منزل أحد المؤمنين.
في تمام الساعة الحادية عشرة صباحًا، توقّف السّير فجأة في ولاية آبيا. شوارع هذه المنطقة كانت وعرة ومكتظة وخطرة إذ إنها تعدّ وكرًا للعصابات المسلحة… ما إن توقّف السّير سألت السائق الذي كان يرافقني ويدعى: “إزاك (إسحق)، لماذا توقف السّير.”؟ قال لي يبدو أنه هناك عصابة مسلّحة ولعلها تريد اختطاف أحدهم.
الخطف وقتذاك كان منتشرًا جدًا في البلاد. كانوا يخطفون أبرياء عزّل بهدف الحصول على النقود. حملت المسبحة الوردية وبدأت بالصلاة خصوصًا بعد أن رأيت علامات الخوف ظاهرة على وجوه كل من كان عالقًا أيضًا في زحمة السير.
اقتربت منّا سيارة رباعية الدفع كان لونها أبيض وفي داخلها عدد من شرطة السير وهم مسلحون، نظروا إليّ ومن ثم غادروا المكان. بعد ذلك بدقائق فُتح الطريق أمام السّيارات.
قلت في نفسي هللويا! فرحت لعدم تعرضنا أنا والسائق لأي مكروه.
ماذا لو تعرّضت للخطف؟!
في تلك اللحظة جرى حديث باطني عميق في داخِلي: ماذا لو تعرّضت للخطف فعلًا؟ فالكثير من أبناء الرعية تعرّضوا ويتعرّضون للخطف، فما المشكلة فيما لو تشاركهم هذا الألم؟ ولكن هل تُراني أستحق ذلك؟ هل أستحق يا رب أن أتألم تكفيرًا عن خطاياي وخطاياهم؟ عندها شعرت بقوة. تبدد خوفي فجأة وشعرت أنّي على استعداد تام لتقبل أي شيء يعدّه الله لي.
بدأ إطلاق النار… فليَعِن الله من يتم خطفهم!
ولدى وصولِنا إلى مدينة آبا، التي تفصلني بحوالي الساعة عن بورت هاركوت حيث رعيتي ومكان إقامتي، واجتيازِنا مستديرة للشرطة العسكرية بحوالي 500 متر، بدأ إطلاق الرصاص. عندها قلت في نفسي فليعن الله من يتم خطفهم في هذه الأثناء.
وما هي سوى بضع ثوانٍ فقط، إذ بي أنا وسائقي مُحاطين فجأة بعددٍ من المسلحين، وهم يقتربون من السّيارة. أجبروا السّائق على التّرجل منها. وصوّبوا البنادق الرشاشة على رأسينا.
رفعت المسبحة بوجه الخاطفين
رفعت المسبحة في وجههم وقلت لهم إنّي كاهن ولا أستطيع التأخر، فهناك من ينتظرني لاحياء سهرة إنجيلية…
لم يعيروا ما قلته أية أهمية بل دخلوا السيارة ومعهم السائق (إزاك- إسحق) الذي بدأ بالصراخ: “أرجوكم لا تقتلوني…”
في تلك اللحظة شعرت أنّي أُرسم كاهنًا من جديد
كانوا يقودون السّيارة بسرعة جنونية… وكلما حاولت النظر إلى وجه السائق الذي كان واحدًا منهم، كان يهدّدني بسلاحه الرشاش. عندها تسارعت الأفكار في ذهني… ومرّ شريط حياتي أمامي. أحسست بشعور غريب للغاية في تلك اللحظات. أغمضت عيني وشعر بأنّي وفي هذه اللحظة أُرسم كاهِنا من جديد! ولكن بدل أن يكون ذلك وسط الترانيم وبمشاركة أهلي وإخوتي والبطريرك بشارة الراعي الذي سامَني كاهنا، (وكان وقتذاك مطران جبيل) شعرت بأني أُرسم كاهنًا، ولكن هذه المرة إلى جانب يسوع على الصّليب.
أخذوا منّي كل شيء إلّا مسبحتي
قبل الوصول إلى مكان الخطف أخذوا منّي الهاتف ومبلغًا من الأموال كنت أحمله… لم يتبق لي سوى المسبحة الوردية. تم احتجازي في غرفة صغيرة مع فتاتين نيجيريتين تم اختطافهما أيضًا.
كان من بين المخطوفين فتاة شابّة تُدعَى (برنسيس). كانت ترنّم دائمًا وكان صوتها ملائكيًا. كان في المكان 39 مخطوفًا نيجيريًا وأنا الوحيد ذا البشرة البيضاء بينهم. لم أتمكن من تناول الطعام وحاولت عدم شرب المياه قدرَ الإمكان، لتعذّر خروجي من الغرفة لقضاء حاجتي في معظم الأحيان.
شعرت وكأن الرصاص يخترق جسدي
ذات مرة طلبت الخروج قليلًا من الغرفة لدخول الحمام فاقترب منّي أحد الخاطفين وبدأ يشهَر سلاحه تارة إلى رأسي، وطورا إلى رجلي وخاصرتي وحتّى صدري. لم يطلق النار يومذاك إلّا أنّي شعرت وكأن الرصاص يخترق جسدي بينما هو يصوّب سلاحه إليّ.
كان الجميع ينظر إلينا… وحده الله يعلم كيف صمدت.
سمعت صوت أمي
ذات يوم دخل أحدهم الغرفة وقال لي “يا أبيض” قم وأخرج. عندها قلت في نفسي إنهم سيقتلونني. انتقلنا عبر دراجة نارية إلى مكان قريب. هناك رأيت الرجلين اللذين أقدما على اختطافي.
أعطَوني هاتفًا. فقد كانت أمّي التي سمعت صوتها وهي تقول لي: ” لا تخف يا جورج بقدرة العذراء مريم لن يصيبك مكروه… نحن نصلّي لك.”
طلب منّي الخاطفون أن أصلّي من أجلهم
قبل العودة إلى مكان الخطف قال لي الخاطفان وأحدهما يدعى دايفيد إنهما تعرّضا لحادث سير بينما كانا في سيارتي. عندها قلت لهما اقتربا لنصلّي على نية سلامتكما. وضعت يدي على رأسيهما وبدأت بتلاوة الصلوات باللغة الإنكليزية… لا أعلم من أين أتت هذه الطلاقة باللغة الإنكليزية، ذلك أنّي لم أكن أتقنها جيدا… وقبل العودة إلى حجرتي طلبا منّي الصلاة على نيتهما.
جهنّم على الأرض
معظم المسلحين كانوا يتعاطون المخدِّرات… لا يمكن تخيّل درجة العنف الذي مارسوه على المخطوفين. كنت أسمع أصوات الصراخ والأنين. تألمت لألمهم بمرارة. ذات ليلة دخل أحدهم الغرفة وانهال عليّ بالضرب دون أية رحمة. كنت أبكي بمرارة بسبب الكم الهائل من الأوجاع الذي كانت في هذه البقعة الجغرافية من العالم. فقد كان يتم تجريد المخطتفين من كراماتهم بوحشية… كانوا يضربونهم بالقصب ويتركونهم على الأرض غارقين بدمائهم.
رأيت صورة جهنم على الأرض. أخبرني السائق في وقت لاحق أنهم كانوا محتجزين في غرفة ضيّقة (نحو 15 شخصًا). عانوا الكثير حيث انتشرت الأمراض والأوبئة فيما بينهم.
حبّات المسبحة تحوّلت إلى بشر
ظلّت المسبحة في يدي دائمًا. كانت كل حبة من المسبحة بمثابة شخص يرفع الصلوات من أجلي. شعرت وقتذاك وكأن حبات المسبحة تحوّلت إلى بشر. تذكّرت أهلي وأصدقائي وأبناء رعيتي مع كل حبّة مسبحة.
كان الرصاص يأتي من كل ناحية وصوب… يا رب سلّمتك روحي
وفي الثلاثين من شهر أيلول، وكان يوم خميس، حدث أمر مفاجئ للغاية: حصلت اشتباكات بين أفراد العصابة التي اختطفتنا، وبين فرقة من الجيش. كان الرصاص ينهمر علينا من كل ناحية وصوب؛ حقيقة الأمر أن القوات الأمنية النيجيرية في تلك الولاية كانت تعمل على تنظيف المنطقة من العصابات المسلحة المنتشرة في غاباتها. بعد تلك الأثناء انتهتِ المفاوضات بين الجماعات المسلحة وجهات لبنانية وأبناء الجالية في نيجيريا. فقد تمّ تأمين المال للإفراج عني وعن سائقي.
وفي الأول من تشرين الأول 2010، وكان يوم جمعة، طُلب منّي الخروج من الغرفة. فخرجت أنا وسائقي. في ذلك اليوم تم أُطلق سراحنا.
ولدت من جديد
بينما كنّا نخرج من المكان أنا والسائق… شعرّت وكأني ولدت من جديد… كنت أنظر إلى الأشجار والسماء وكأنّي أراها للمرّة الأولى… نظرت إلى المسبحة في يدّي وضحكت. فوحدها كانت شاهدة على كل ما حصل خلال 10 أيام من الخطف ووحدها ستظل شاهدة على كل ما سيحصل في حياتي.
وعدت إلى لبنان… فنيجيريا مجددًا
بعد ان أمضيت فترة بعيدًا عن رعيتي في بورت هاركورت قرّرت العودة لإكمال رسالة الكهنوتية هناك. عدت إلى كنيسة القديس نعمة الله وطويت صفحة كل ما حصل معي. مع كل مغيب أتذكر أحداث أيلول من العام 2010 فأحمل مسبحتي وأصلّي على نيّة كل خاطف ومخطوف وكل متألم ومجرّد من كرامته.