أخبار العالم

التلويح بحرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين نهج بالغ الخطورة

Published

on

يقال إن الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين أصبحت مسألة وقت.

يعتبر عدد كبير من السياسيين والمحللين الأميركيين هذا المفهوم مألوفاً. تطغى أجواء الانتصار على ذكريات الأميركيين الجماعية بشأن الحرب الباردة الأصلية. يتذكر جزء واسع منهم كيف وقف الرئيس رونالد ريغان على بوابة «براندنبورغ» ودعا نظيره السوفياتي ميخائيل غورباتشوف إلى «هدم هذا الجدار»! سرعان ما سقط جدار برلين على يد من بُنِي الجدار لاحتوائهم. وبعد فترة قصيرة انهار الستار الحديدي، ثم تفكك الاتحاد السوفياتي فجأةً، وأُزيلت جميع معدات الحرب من شوارع موسكو.

Follow us on Twitter

هكذا انهزم خصم الولايات المتحدة، لكن لم يخسر النظام السوفياتي أمام قوة السلاح بل انهزم في إطار منافسة إيديولوجية كبرى. الحرية هزمت الاستبداد. وفق هذا المنطق، يُفترض أن يكون مصير الصين مشابهاً للسوفيات.

لكن تبدو هذه الذكريات محفوفة بالمخاطر. أولاً، هي تفترض أن النصر سيكون حتمياً. هذا الافتراض ليس مفاجئاً بما أن الولايات المتحدة تُعتبر غير مهزومة في منافسة الحرب الباردة حتى الآن. لكن تتعدد التجارب التي كادت تتحول إلى إخفاقات كبرى أو تُسبب تعادلاً كارثياً. لا شيء يضمن أن يكون البلد محظوظاً بالقدر نفسه خلال أي مواجهة نووية مطولة أخرى.

ثانياً، يلغي مفهوم الانتصار عقوداً من التدريبات المكثفة لتجنب الاعتداءات، والملاجئ المزدحمة، وصفارات الإنذار الجوي. لنتخيل تداعيات هذا التهديد المتواصل على نفسية المواطنين الهشة أصلاً في الولايات المتحدة. قد يدوم هذا النوع من المواجهات مع الصين لعقود عدة. وحتى لو انتصرت الولايات المتحدة فعلاً أو صمدت بكل بساطة رغم المواجهة الطويلة، لا مفر من أن تتعامل مع صدمات كبرى. ما سيكون مصير الولايات المتحدة كبلــد بحد ذاته؟

ثالثاً، ينفي التركيز على الفصل الأخير من الحرب الباردة الأولى واقعاً مفاده أن هزيمة الشر التوتاليتاري ترافقت مع تكاليف هائلة على مستوى الحرية محلياً. ظن البعض أن التدقيق الدولي المتزايد بمظاهر التمييز انعكس إيجاباً على قانون الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، مع أن الحريات المدنية تضررت في معظم الحالات.

بلغت موجة الخوف الثانية من تجدّد الشيوعية ذروتها مع ظهور لجنة النشاطات غير الأميركية في مجلس النواب، واللجنة الفرعية الدائمة للتحقيقات في مجلس الشيوخ بقيادة السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي، وإقدام مكتب التحقيقات الفدرالي على التحقيق بممارسات الجيش الأميركي، والمسؤولين الحكوميين، والشخصيات العامة، والمواطنين العاديين المتّهمين بالتعاطف مع الشيوعيين، بينما استهدف «أمر الولاء» الذي أصدرته إدارة ترومان في العام 1947 المخرّبين المزعومين داخل الخدمة المدنية. كشفت وثائق مسرّبة في العام 2007 أن مدير مكتب التحقيقات الفدرالي، جون إدغار هوفر، كان يخطط لتعليق أوامر المثول أمام المحكمة وسجن حوالى 12 ألف مخرّب أميركي مُشتبه بهم. حصل ذلك في العام 1950، وهي السنة التي لجأ فيها إلى «مجلة الجمعية الطبية الأميركية» للتحذير من «الجراثيم الشيوعية» التي تصيب الجسم السياسي. دعا هوفر طلاب الطب وزملاءه والأطباء إلى إبلاغ مكتب التحقيقات الفدرالي بأي أدلة تثبت انتشار تلك العدوى.

لنتخيل الآن أن تُعرَض تلك الأسلحة الهستيرية أمام مكارثي أو هوفر في القرن الواحد والعشرين. انطلاقاً من التجارب التاريخية، يسهل أن نتوقع فرض رقابة فدرالية وتكثيف إجراءات الانضباط وتوسيع نطاقها، تزامناً مع احتدام التوتر خلال أي حرب باردة جديدة.

في ظل تجدّد الكلام عن هذه الحرب الجديدة في الفترة الأخيرة، شكك أحد أعضاء الكونغرس علناً بولاء زميلة له في مجلس النواب بسبب إرثها الصيني الأميركي المشترك. قال النائب الجمهوري لانس غودن من ولاية تكساس إن تلك النائبة يُفترض ألا تحصل على تصريح أمني أو تطّلع على الوثائق السرية. يستحق قادة اللجنة المنتقاة للحزب الشيوعي الصيني الإشادة لأنهم دافعوا عن النائبة جودي تشو ضد تلك التُهَم. لكن يجب ألا ننسى أن رئيس مجلس النواب الطموح السابق كيفن مكارثي كان قد أنشأ تلك اللجنة كجزءٍ من جهود مكثفة لمواجهة الحكومة الصينية و»الفوز في الحرب الباردة الجديدة». لا مفر من أن تنتج هذه الرؤية أجواءً من العدائية الداخلية. هل أصبح قسم الولاء الذي كان شائعاً في عهد ترومان ظاهرة بالية؟

يُفترض ألا يتفاجأ أحد بانتشار الشكوك ومظاهر التمييز ضد الأميركيين من أصل آسيوي في ظل توسّع الخطاب المعادي للصين. أُلغيت مبادرة الصين التي أطلقها ترامب لاستئصال التجسس الاقتصادي قبل أن تُجدّدها وزارة العدل في عهد الرئيس جو بايدن، تزامناً مع إطلاق سلسلة قضايا وشكاوى كانت كفيلة بتأجيج مشاعر كره الأجانب والعداء العنصري. كذلك، تسللت النزعة السياسية التي تدعو إلى محاربة الصين على المستوى الفدرالي إلى المجالس التشريعية للولايات، ويتم التداول باقتراحات لمنع الصينيين من امتلاك الأراضي الزراعية في 24 ولاية على الأقل.

قد تدعو اعتبارات الأمن القومي إلى توخي بعض الحذر، لكن قد تكون النزعة المتسارعة إلى منع الصينيين من امتلاك الأراضي جزءاً من الحلول التي تُسبب المشاكل. تملك الكيانات الأجنبية الحق بامتلاك حوالى 40 مليون فدان من الأراضي الزراعية الأميركية، أي ما يساوي 3% من مجموع الأراضي في القطاع الخاص. ومن هذه النسبة الصغيرة، تملك الصين أقل من 400 ألف فدان، ما يساوي أقل من 1% بقليل من الأراضي المملوكة للأجانب، وفق أحدث إحصاءات أصدرتها وزارة الزراعة الأميركية.

في غضون ذلك، يهدف مشروعا قانون في مجلس الشيوخ راهناً إلى تجريد الصين من امتيازات «العلاقات التجارية الطبيعية الدائمة»: يضمن هذا التصنيف الرسمي ظروفاً تجارية إيجابية مثل تخفيض الرسوم الجمركية وحصص الاستيراد. ينذر القانون الأول الذي اقترحه السيناتور جوش هاولي بتجريد الصين من ميزة «العلاقات التجارية الطبيعية الدائمة»، ويقترح المشروع الثاني بقيادة السيناتور توم كوتون تعليق القانون الأول إلى أن يتأكد الرئيس من عدم تورط الصين في انتهاكات متنوعة لحقوق الإنسان (بما في ذلك منع حرية ممارسة الدين أو المشاركة في عمليات التجسس الاقتصادي).

يتطلب تحديد مجموع التكاليف المرتبطة بإقامة علاقات تجارية مع الصين نماذج اقتصادية مفصلة. لكن يكشف جدول التعريفات المنسّقة، الذي يُحدد مستوى الرسوم والحصص الخاصة بالسلع التي تستوردها الولايات المتحدة، أن الرسوم المفروضة على جميع السلع سترتفع بنسبة تتراوح بين 20 و40%. إذا اتخذت بكين خطوة مماثلة (وبما أن قيمة التجارة الثنائية بلغت 690 مليار دولار في العام 2022)، سيتعرض الاقتصاد الأميركي لضربة كارثية. نتيجةً لذلك، ستزيد أسعار جميع السلع بطريقة قياسية، بدءاً من الهواتف الخليوية وصولاً إلى فول الصويا، ولا ننسى تصاعد التوتر الدبلوماسي بين البلدين طبعاً. من المستبعد أن يسترجع المجتمع الأميركي تناغمه أو يتجدد ازدهار البلد خلال المنافسة المحتدمة في هذا القرن، نظراً إلى قوة الصدمات التي تتعرض لها السلع وتوسّع الشكوك الاقتصادية العامة.

لكن لا تعني هذه التطورات كلها أن الصين لا تطرح أي تهديدات على المصالح الأميركية، والاستقرار الإقليمي، وسيادة الدول المجاورة لها، بل تتعدد نشاطات بكين الخبيثة. لا يلجأ الحزب الشيوعي الصيني من جهته إلى السلوكيات اللبقة التي يتبادلها أعضاء الكونغرس ولا يتعامل بالشكل نفسه مع التهديدات المطروحة على الحقوق الفردية أو عقوبات عدم الولاء، بل إنه يتخلى عن السلع عند الحاجة، ويشارك في التجسس على الشركات، ويسرق الملكية الفكرية، ويقمع الأقليات العرقية بالقوة. أكثر ما يثير القلق هو تعبير الرئيس الصيني شي جين بينغ مراراً عن رغبته في «إعادة توحيد» بر الصين الرئيسي وتايوان، وهو يرفض استبعاد خيار الغزو العسكري. إنه سبب آخر لمنح تايبيه الأسلحة الدفاعية اللازمة لتحصين الجزيرة قدر الإمكان.

لكن لا يتطلب تحصين تايوان أو معاقبة الصين على سياساتها الاقتصادية السيئة مواقف مشابهة لحقبة الحرب الباردة محلياً، بل إن عسكرة المجتمع الأميركي قد تؤدي إلى تسلل الممارسات الصينية إلى الحياة الأميركية، تزامناً مع فرض قيود جديدة ومخيفة على حرية التعبير والتنقل ونيل الجنسية. تُعتبر التجاوزات الأخيرة في حقبة ما بعد هجوم 11 أيلول (بما في ذلك عمليات الاعتقال اللامتناهية، وأعمال التعذيب، والتنميط العرقي، والرقابة الحكومية) خير مثال على ذلك. في مجموعة مسائل تتجاوز حدود الأمن القومي، سيكون التورط في نسخة جديدة من الحرب الباردة نقيضاً لمظاهر الحرية والانفتاح والازدهار في المجتمع. في هذه الظروف، يمكن تحقيق المصالح الأميركية بأفضل الطرق عبر الحفاظ على القيم التي تهمّ الأميركيين وطرح الولايات المتحدة كنموذج طموح يمكن أن تقتدي به البلدان الأخرى.

يمكننا أن نعود إلى خطاب ريغان عن «الإمبراطورية الشريرة» ونتعلّم من أحداث التاريخ أن «خداع الذات في وجه الوقائع المزعجة حماقة». يجب أن نتعلّم من تجارب الماضي إذاً للتخطيط للحاضر، فنتمكن حينها من تجنب ردود الأفعال المفرطة والهوسية التي تقضي على ما نحاول حمايته.

 

المصدر: Foreign Affairs

Exit mobile version