أخبار الشرق الأوسط
هل يُعقل أن يعود النازح لمكانه الأصلي إذا لم يشعر أن منزله أكثر أماناً من خيمته؟
هذا المقال بقلم الدكتور لؤي شبانة، مدير صندوق الأمم المتحدة للسكان للمنطقة العربية، والآراء الواردة أدناه تعكس وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN. لم أكد أصل إلى منطقة تجمع النازحين في العراق حتى استقبلني طفل بدا لي أنه في عمر ابنتي. how are you ، سألني كما يسأل الكثيرين من أمثالي…
هذا المقال بقلم الدكتور لؤي شبانة، مدير صندوق الأمم المتحدة للسكان للمنطقة العربية، والآراء الواردة أدناه تعكس وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN. لم أكد أصل إلى منطقة تجمع النازحين في العراق حتى استقبلني طفل بدا لي أنه في عمر ابنتي. how are you ، سألني كما يسأل الكثيرين من أمثالي ممن يعملون إما في المنظمات الإغاثية أو في الصحافة الدولية ويزورون مخيم النازحين. “إسمي لؤي”، أجبته باللغة العربية فلمعت عيناه قبل أن تقفز كلماته من فمه لتحكي لي قصته. أحمد، ابن العاشرة، نزح وعائلته من مدينة الموصل إلى هذا المخيم منذ أكثر من سنة. لكن هذه لم تكن القصة، فالقصة التي أراد أن يشاركني بها هي عن عودته هذه السنة إلى الدراسة، بعد انقطاعه عنها منذ ترك مدرسته في الموصل. كان حماس أحمد واضحا وهو يعد على أصابعه الصغيرة ما سيشتريه له والده: شنطة، دفاتر وأقلام، ثم ذكر أسماء أصدقائه القدامى رغم أنه لا يعرف عنهم الكثير منذ ترك داره بحثا عن الأمان أثناء معركة الموصل. سرعان ما فهمت أن جزءا كبيرا من فرحة أحمد بالعودة إلى المدرسة مرتبط بما يمثله ذلك من عودة إلى نمط حياة طبيعي بالنسبة لولد في سنه، حتى إن لم تتضمن الخطة عودته إلى منزله، فقد نقل لي أحمد إصرار والده الذي قال “لن أفرّط في خيمتي، سأذهب كل يوم للبحث عن عمل ثم أعود إليكم في الخيمة.” قرر والد أحمد أنه لن يسلم خيمته التي تشعره بالأمان رغم شح مقومات الراحة في داخلها. ففي نظر أبي أحمد، ما زال عدم الوضوح يخيم على مدينته، فلا يعلم إن كان قد يواجه إحدى الميليشيات أو أحد الإرهابيين إن عاد، وهو ليس مستعدا لهكذا مواجهة بعد أن تحمّل الكثير أثناء المعركة قبل أن يهرب بعائلته من الموصل. حين يكثر الحديث عن ضرورة عودة النازحين أو اللاجئين إلى أماكن إقامتهم الأصلية، غالبا ما يتم التغاضي عن بعض البديهيات: أهمها هو مفهوم الأمان الذي سوف يهدئ من توتر النازح أو اللاجئ، بمعنى الضمانات التي يحتاجها النازح بأنه لن يواجه تصرفات عشوائية من قبل أفراد أو تنظيمات رسمية إن عاد. فالسبب الأساسي للنزوح هو البحث عن الأمان للفرد ولعائلته، كيف إذا نتوقع قرارا بالعودة إن لم يكن مقرونا بضمانات لسلامة العائدين؟ تمثل الخيمة بالنسبة لعائلة فقدت الكثير بؤرة أمان حتى وهي تفتقر للأساسيات. يكفي أنها بعيدة عن الاشتباكات وعن حاملي السلاح، لذا فأي تفكير بالعودة أو بالبحث عن بديل للخيمة غالبا ما يكون مبنيا على اقتناع الشخص أن في عودته فائدة له بالمقارنة مع بقائه في الخيمة التي تبدو فجأة أنها أكثر أمانا، في تقديرهم، من العودة إلى مكان هربوا منه أصلا بسبب خطره على حياتهم. هذا حال اللاجئين والنازحين في العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها من البلاد التي فرضت النزاعات والأوضاع الانسانية على أهلها التشرد والغربة والبعد عن البيوت. مع الحديث عن إمكانية عودة اللاجئين السوريين أو النازحين العراقيين إلى بيوتهم، لا بد من التوقف عند الإجراءات الفعلية التي سوف تضمن عودة آمنة لهم، فمن المعروف لدى كل من عمل في مجال المساعدات الإنسانية ومع النازحين أن العودة غير المؤمنة وغير المنظمة قد تولد عنفا من الصعب السيطرة عليه، فقد تغيرت الديناميات والعلاقات، لا سيما في بلاد لم تستطع مواجهة العنف بالمساءلة والمحاسبة. وبما أنني أعمل في مجال المساعدات الإنسانية والحماية منذ قرابة ثلاثة عقود، فإنني شاهد على حالات لا تحصى من العنف الذي تواجهه النساء بشكل خاص أثناء النزوح وعند العودة، سواء داخل الأسرة أو خارجها. حالات التوتر غالبا ما تعزز من تصرفات موجودة أصلا في المجتمع، ونحن في منطقتنا العربية عبارة عن مجتمعات لا تعطي النساء حقوقها رغم إشاراتنا الدائمة إلى مكانة المرأة وضرورة تكريمها كما نصت عليها الأديان والأعراف الاجتماعية. نحن في صندوق الأمم المتحدة للسكان، وهو الوكالة الأممية المعنية بمواجهة العنف المبني على النوع الاجتماعي، نرى علاقة مباشرة بين حالات التوتر وبين ارتفاع العنف الموجه ضد النساء والمراهقات والطفلات. وأنا أتابع حاليا النقاشات السياسية حول عودة اللاجئين والنازحين كطريقة لضمان عودة البلاد إلى حالة طبيعية، لكني لم أسمع بعد عن ضمانات بعدم تعرض النساء والفتيات لعنف متزايد في حالة عودة النازحين، ولم أر بعد خططا لمواجهة احتمالات هذا النوع من العنف. من المهم أن نعمل، كمنظمات إنسانية تستمد فحوى مهمتها من القوانين الدولية، على ضمان عودة آمنة للنازحين واللاجئين، ومن المهم ألا يطغى الضغط السياسي من أجل العودة على البديهيات: ضمان سلامة العائدين، وخصوصا النساء والمراهقات منهم، إذ أنهن الأكثر عرضة للاعتداء على كرامتهن وأجسادهن. من الأغلب أن حلم كل شخص رحل عن بيته هو العودة وتضميد ما خلفته الحرب من جراح على جسده وروحه، لكن العودة لن تكون ناجحة إلا إن اقتنع النازح أنها في صالحه وصالح عائلته. كل ما هو غير ذلك يبدو لي أنه سوف يؤكد لوالد الطفل أحمد صحة قراره: “لن أفرّط بخيمتي.”