أخبار الشرق الأوسط

قرارُ مَحكمةِ العَدلِ الدولية يَمنَحُ الفلسطينيين بعضَ الأمل، ولكن…

Published

on

في حين أنَّ الظروفَ على الأرض لا تزالُ مُزرِية، فإنَّ حُكمَ محكمة العدل الدولية يُقدِّم للفلسطينيين أداةً مُفيدةً لحَشدِ الضغطِ الدولي ضد إسرائيل – وربما هو الطريق الوحيد للمضي قُدُمًا.

عمر حسن عبد الرحمن*

في حُكمٍ تاريخي، اعتبرَت أعلى محكمة في العالم أنَّ الاحتلالَ العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ 57 عامًا غير قانوني وأمرت إسرائيل بإنهاء وجودها هناك، بما في ذلك جميع مستوطناتها ومستوطنيها، “في أسرعِ وَقتٍ مُمكِن”. كما ألزمَ القرارُ المؤلَّفُ من تسعِ نقاطٍ الصادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي إسرائيل بدَفعِ تعويضاتٍ لسكان الأراضي الفلسطينية المحتلة، ودعا دول العالم والمنظمات الدولية إلى الامتناعِ عن مساعدةِ إسرائيل في الحفاظِ على وجودها هناك.

Follow us on Twitter

وجاءَ حُكم المحكمة، في 19 تموز (يوليو)، استجابةً لطلبِ الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول (ديسمبر) 2022 لإصدارِ رأيٍ استشاريٍّ بشأنِ التَبِعاتِ القانونية لاحتلال إسرائيل الذي طال أمده، فضلًا عن إنكارها لحقِّ الفلسطينيين في تقريرِ المصير، وسياساتها الاستيطانية والضمّ، وتشريعاتها التمييزية، وجهودها لتغيير التركيبة السكانية للمناطق التي تحتلها، وخصوصًا القدس الشرقية.

في شباط (فبراير) من هذا العام، قدّمَت 52 دولة وثلاثُ منظّماتٍ دولية مُرافعاتها أمام المحكمة، وهو عددٌ أكبر من أيِّ قضيةٍ أُخرى شهدتها محكمة العدل الدولية في تاريخها الذي يبلغ 78 عامًا، وكُلُّها تقريبًا كانت نيابةً عن فلسطين. وقاطعت إسرائيل الإجراءات.

أملٌ في المُساءلة؟

أساسًا، وَجَدَت المحكمة أنَّ إسرائيل تَنتَهِكُ التزاماتها كقوّةِ احتلال بطُرُقٍ عدة، وأنَّ احتلالها غير القانوني يَحرُمُ الفلسطينيين من حقّهم الأساسي في تقريرِ المصير، وأنَّ النظامَ الحالي ينتهِكُ الحظرَ المفروض على التمييزِ والفَصلِ العُنصُرِيَين.

في الواقع، يُشَكّلُ هذا الحُكمُ ضربةً قويةً لإسرائيل ومؤيديها الذين يتعرَّضون أصلًا لضغوطٍ هائلةٍ بسببِ سلوكِ إسرائيل العسكري في غزة، حيث قتلت خلال تسعة أشهر ما لا يقل عن 40 ألف شخص –معظمهم من النساء والأطفال– وشرّدت وتسبّبت في تجويع الملايين، ودمّرت جُزءًا كبيرًا من البنية التحتية والمنازل في القطاع. في كانون الثاني (يناير)، قضت محكمة العدل الدولية بأنَّ إسرائيل تُخاطِرُ بارتكابِ إبادةٍ جماعية. ومنذ ذلك الحين، تجاهلت الدولة العبرية تمامًا الإجراءات التي أمرت بها المحكمة لتَجَنُّبِ ارتكابِ أخطرِ الجرائم. وفي حزيران (يونيو)، طلبَ المُدَّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وهي المحكمة الشقيقة لمحكمة العدل الدولية، أوامر باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت للاشتباه في ارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة.

لا شكَّ أنَّ القرارَ الأخير لمحكمة العدل الدولية هو نَصرٌ كبيرٌ للقضية الفلسطينية ويجلب العون والأمل في لحظةٍ عصيبة من تاريخها. لقد ناضلَ الفلسطينيون منذ فترة طويلة من أجلِ مُحاسَبةِ إسرائيل على حرمانهم من حقوقهم الوطنية. ومن الممكن أن يكون رأي محكمة العدل الدولية بمثابةِ رصيدٍ مُفيدٍ في هذا الصدد، شريطة الاستفادة منه لحشدِ ضغوطٍ دولية ذات معنى.

وفي حين أنَّ الحُكمَ هو رأيٌ استشاري غير مُلزِم، إلّا أنَّهُ لا يزالُ له وزنه داخلَ النظامِ الدولي بسببِ مكانةِ المحكمة. وفي نقطتها الأخيرة، دعت محكمة العدل الدولية الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي إلى “النظر في الأساليب الدقيقة والإجراءات الإضافية المطلوبة” لإنهاءِ الاحتلال الإسرائيلي بسرعة.

قد يدفعُ هذا القرارُ الدولَ، وخصوصًا الكبرى منها، إلى تكثيفِ الضغوط على المشروع الاستيطاني الإسرائيلي. وقد نشرت الأمم المتحدة في العام 2020، “قائمة سوداء” تضمُّ أكثر من 100 شركة عاملة في المستوطنات، تحقيقًا لهذه الغاية. لكن من غير الواضح ما إذا كانت الدولُ ستَعتَبِرُ حُكمَ المحكمة الأخير التزامًا بقطعِ العلاقاتِ مع إسرائيل بالكامل. وفي حين أشارَ القضاة بوضوح إلى وجودِ صلةٍ بين إسرائيل والأراضي المحتلة بقولهم إن إسرائيل قامت بالفعل بضمِّ الأراضي المحتلة، إلّا أنهم لم يعترفوا صراحةً بأنَّ وجودَها في الأراضي المحتلة أصبح لا يُمكِنُ تمييزه عن بقية الدولة.

حقائق على الارض

في اليوم السابق للحُكم، أصدرَ الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) قرارًا أعلنَ فيه “معارضته الحازمة لإقامةِ دولةٍ فلسطينية”، على أساسِ أنَّ ذلك “سيُشَكِّلُ خطرًا وجوديًا على إسرائيل ومواطنيها، ويؤدّي إلى إدامةِ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وزعزعة استقرار المنطقة”. في الواقع، إنَّ الطبقة السياسية في إسرائيل بأكملها أعلنت من خلال ذلك أنها لا تنوي الخروجَ من الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

التصويت، الذي تمّت الموافقة عليه بغالبية 68 صوتًا ومعارضة تسعة –جميعهم أعضاءٌ عرب في الكنيست– وامتناع 43 عضوًا عن التصويت، جاءَ وسط تجدُّدِ الدعوات الدولية لإقامةِ دولةٍ فلسطينية. وتسعى القوى العالمية جاهدةً من أجل المضي قدمًا لإيجادِ المسارِ في اليوم التالي في غزّة بمجرّد انتهاءِ الأعمال العدائية، وقد اعترفت دولٌ متعددة بفلسطين منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بما فيها إيرلندا وبلجيكا وإسبانيا. ويُفيد بعضُ التقارير بأنَّ اليابان وكوريا الجنوبية على وشكِ أن تحذوا حذوها، مما سيصل مجموع الدول المُعتَرِفة بدولة فلسطين إلى 147.

قدّمَ  القرار إلى الكنيست حزب المعارضة اليميني، “حزب الأمل الجديد–اليمين المُتّحد”، الذي قال رئيسه جدعون ساعر أنَّ “القرارَ يهدفُ إلى التعبير عن المعارضة العامة الموجودة بين الشعب (الإسرائيلي) لإقامةِ دولةٍ فلسطينية، الأمر الذي من شأنه أن يُعرِّضَ أمنَ ومستقبلَ إسرائيل للخطر”. ويوجّه القرارُ رسالةً إلى المجتمع الدولي مفادها أنَّ “الضغطَ من أجلِ فَرضِ دولةٍ فلسطينية على إسرائيل لا طائلَ منه”. كما صوّتَ الوزير السابق بيني غانتس، الذي يعتبره الكثيرون في الغرب البديل الأكثر قبولًا من بنيامين نتنياهو، لصالحِ القرار.

ودعا وزير المالية الإسرائيلي البارز بتسلئيل سموتريتش، نتنياهو إلى الردِّ على حُكمِ محكمةِ العدلِ الدولية بضمِّ الضفة الغربية رسميًا. ويحرُصُ القادةُ الإسرائيليون على تذكيرِ الفلسطينيين ومُنتقدي إسرائيل في الخارج بأنهم هم الذين يسيطرون على الوضع على الأرض.

في هذا العام، صادرت إسرائيل المزيد من الأراضي المحتلة مُقارنةً بأيِّ فترةٍ أخرى منذ توقيع اتفاقيات أوسلو في العام 1993. وقد بلغ عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين أعلى مستوياته على الإطلاق، وتم طرد أكثر من عشرة مجتمعات فلسطينية في الضفة الغربية قسرًا من أراضيها منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). في الواقع، استخدَمَ الوزراء الإسرائيليون من اليمين المتطرِّف الأزمة الحالية كغطاءٍ لإجراءاتٍ غير عادية لدمجِ الأراضي المحتلة في الدولة ونقل السلطات من السيطرة العسكرية إلى السيطرة المدنية.

تغييرُ هيكلِ الحوافز

بينَ قرارِ محكمة العدل الدولية، وقرارِ الكنيست، والأرض المحروقة في غزة، أصبحَ المسرحُ مُمَهَّدًا للمرحلةِ التالية من المواجهة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

في الواقع، لقد تجاوزَ الاحتلالُ نقطةَ اللاعودة منذ فترة طويلة، بمعنى أنَّ إسرائيل نجحت في بناءِ مشروعٍ استيطاني مُصَمَّمٍ بحيثُ يكون من المستحيل دحره سياسيًا. وبعد نصف قرن من الاستثمارِ المُكَثَّفِ في مشروعِ الضمِّ والإفلاتِ شبه الكامل من العقاب على انتهاكاته للقانون الدولي، انقلبَ هيكلُ الحوافز لصُنعِ السلام رأسًا على عقب. إنَّ القوى المؤيِّدة للضمِّ قويةٌ جدًّا والمصالح الخاصة راسخة للغاية. وتعتقدُ غالبيةٌ ساحقةٌ من الإسرائيليين الآن أنَّ الدولةَ الفلسطينية سوف تُشَكِّلُ تهديدًا مُتأصِّلًا لأمنهم. إنَّ حقيقةَ عدم تصويتِ أيِّ عضوٍ يهودي في الكنيست لصالحِ حلِّ الدولتَين هي أحدثُ دليلٍ على ذلك.

إنَّ تغييرَ هذه الديناميكية سوفَ يتطلَّبُ تحوُّلًا كبيرًا في الحسابات الحالية للتكاليف والفوائد بين الساسة الإسرائيليين والجمهور الإسرائيلي. وهذا لا يُمكِنُ أن يأتي إلّا من خلالِ حشدِ ضغوطٍ عقابية كبيرة على إسرائيل.

مع ذلك، فإنَّ السُبُلَ المؤدّية إلى المُساءلة والضغط والتغيير ليست واضحة، وبالتأكيد ليست مضمونة. تتمتّعُ إسرائيل بحمايةِ ودَعمِ أقوى دولة في العالم، إلى جانب العديد من الدول الأخرى ذات النفوذ. على الرُغمِ من أنَّ الخبراءَ وجماعات حقوق الإنسان قد قدّموا تقاريرَ شاملة عن الطبيعة الإجرامية لنظامِ احتلالها لعقود، فإنَّ إسرائيل حافظت على ما يكفي من حجاب اللياقة والشرعية لإرضاء شركائها.

وعلى الرُغم من حُكمِ محكمة العدل الدولية، فإنَّ الدولَ القوية عمومًا تكون محافظة عندما يتعلّقُ الأمرُ بالمحاكم والقانون الدوليين، خشيةَ أن يُستَخدَما ضدها في مرحلةٍ ما. وقضت محكمة العدل الدولية هذا الشهر بأنَّ الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية غير قانوني ويجب هدمه، لكن إسرائيل لم تُواجِه ضغوطًا تُذكَر للامتثال.

لكن في السنوات الأخيرة، انكشفَ حجابُ لياقة إسرائيل بشكلٍ متزايد وأصبحت نواياها الحقيقية واضحة للعيان. وقد أوضحت الحكومات اليمينية المتعاقبة أنَّ الاحتلالَ ليس مؤقتًا، وأنَّ إسرائيل تعتزمُ ضمَّ الضفة الغربية كُلِّيًا أو جُزئيًّا. وعلى هذا فإنَّ الحُكمَ الإسرائيلي غير الديموقراطي للفلسطينيين يبدو أنهُ مستمرٌ ودائمٌ. وقد دفع هذا العديد من المراقبين –بما في ذلك جماعات حقوق الإنسان المُحتَرَمة عالميًا– إلى الاستنتاج بأنَّ إسرائيل تُمارِسُ جريمة “الفصل العنصري”، حيث تفرُضُ نظامَ تمييزٍ عُنصري لصالح مجموعةٍ على حسابِ مجموعةٍ أُخرى.

في الواقع، ما يَقرُبُ من نصف الدول التي مَثَلَت أمامَ محكمةِ العدل الدولية في شباط (فبراير) قدَّمَت حججًا بشأنِ الفصل العنصري، وفي حُكمها الصادر في تموز (يوليو) ذكرت المحكمة أنَّ إسرائيل تنتهكُ الحظرَ المفروض على الفصل العنصري المنصوص عليه في الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري. .

تعرَّضت صورةُ إسرائيل العالمية لضربةٍ قويةٍ منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). فمن الأحرام الجامعية في الولايات المتحدة إلى المدن في جميع أنحاء العالم، يُعبّرُ الناس عن غضبهم من سياسات إسرائيل في كلٍّ من غزة وفي الأراضي المحتلة بشكلٍ عام. ويبدو احتمالُ المُساءلة واضحًا ربما للمرة الأولى. على الرُغمِ من الكارثة التي تتكشّفُ في غزة وأزمة القيادة في السياسة الفلسطينية، فإنَّ الحُكمَ التاريخي لمحكمة العدل الدولية يمنحُ الفلسطينيين بصيصَ أملٍ في أنهم قد يجدون طريقًا نحو التحرير والحصول على حقوقهم.

  • عمر حسن عبد الرحمن هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية، حيث يُركّزُ على فلسطين والجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة.
Exit mobile version