أخبار الشرق الأوسط
الغاز الإسرائيلي: إكتفاء ذاتي ومشاريع تصدير
وضعت الإكتشافات البترولية شرقي البحر الأبيض المتوسط، “إسرائيل” على خريطة الطاقة في المنطقة. تاريخياً، كانت “إسرائيل” تعتمد على الواردات الخارجية لتلبية معظم إحتياجاتها من الطاقة، ونتيجة للتطورات المتصاعدة أتت هذه الإكتشافات في فترة مفصليّة ومهمّة جدّاً بالنسبة إليها فهي كانت على وشك الوقوع في مشاكل حول إيجاد مصادر خارجيّة لتأمين حاجاتها الداخلية. فحقول الغاز المكتشفة حديثاً ضمن المياه الإقتصاديّة الخالصة، قد قلبت المعادلة وأضحت ترسم مستقبلاً واعداً، إن لجهة تحقيق الإكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي المخصص للإستهلاك الداخلي أو لجهة تحوّلها إلى أبرز مصدّري الغاز في المنطقة. الأمر الذي سيترك إنعكاسات مباشرة على مستقبلها السياسي والإقتصادي والأمني، وبالتالي سيرسم تحديات جدية في وجه تسويق الغاز اللبناني.
Follow us on twitter
إنتاج من الحقول الإسرائيلية وخوف على “اللبنانية”
حالياً، تستخرج “إسرائيل” معظم مواردها من الغاز الطبيعي من حقلي “لفياثان” و”تمار”. يحتوي “تمار” على أكثر من 300 مليار متر مكعب من الغاز، ولديه القدرة على إنتاج 11 مليار قدم مكعب من الغاز سنويّاً. وفي هذا الإطار، أعلنت الشركات المشاركة في إستثمار حقل “تمار” بتاريخ 8 كانون الأول 2022، أنها ستستثمر نحو 673 مليون دولار لتوسيع إستخراج الغاز من الإحتياطي في ضوء الطلب المتزايد من الداخل والخارج.
وجاءت معظم إيرادات “الغاز الإسرائيلي” من حقل “لفياثان”، بحيث تُنقل سعة قصوى تصل إلى 12 مليار متر مكعب سنوياً من خزان “لفياثان” لتصدير الغاز وبيعه داخل “إسرائيل” وخارجها، مع العلم أن هذا الحقل يعتبر أحد أكبر إكتشافات الغاز في المياه العميقة في العالم والذي يقع غرب حيفا.
في حين يتوقع أن تبدأ قريباً بإستخراج الغاز من حقل “كاريش” الذي تم إكتشافه في العام 2013. يعتبر هذا الحقل قريباً جداً من الحدود الفاصلة بين المناطق الإقتصادية الخالصة لكل من لبنان و”إسرائيل” المنجزة وفقاً لإتفاق الترسيم الموقع بين الطرفين في تشرين الأول 2022، ذلك أن أقرب نقطة منه تبعد مسافة نحو أربعة كيلومترات فقط من الحدود البحرية اللبنانية وبالتحديد عن البلوك رقم 8 وتبعد مسافة نحو ستة كيلومترات عن البلوك رقم 9، يشار إلى أن هذين البلوكين يقعان جنوب المنطقة الإقتصادية الخالصة للبنان.
هذا يعني وجود مخاوف منطقية من إمكانية “إسرائيل” الوصول تقنياً إلى الحقول اللبنانية خاصة وأن أبرز التوقعات الجيولوجية تشير إلى إمكانية كبيرة لوجود مكامن مشتركة تحت البحر. وهذا أمر في منتهى الخطورة، خاصة في حال إستخدمت التقنيات الحديثة في الحفر الأفقي والعمودي، الأمر الذي يستوجب إسراع لبنان في إستغلال ثروته البترولية وصياغته لإستراتيجية واضحة تضمن تصدير وتسويق غازه إلى الأسواق المطلوبة والمناسبة.
لماذا الحديث عن “كاريش”؟ لأن الحقول الأخرى التي تعمد على إستغلالها على طول الشاطئ نذكر منها على سبيل المثال حقول “لفياثان” و”دولفين” و”داليت” و”تمار” و”تانين” بعيدة نسبياً عن المياه البحرية الخاضعة للولاية القضائية للدولة اللبنانية وبالتالي من المستبعد أن تسبب عملية التنقيب في تلك الحقول أي تأثير على المنطقة اللبنانيّة وثرواتها.
إكتشافات تجارية جديدة
مؤخراً، أعلنت “إسرائيل” في تشرين الأول من العام 2022، عن تحقيق إكتشاف تجاري من الغاز الطبيعي في حقل “هيرمس” قبالة “الساحل الإسرائيلي”. بحيث أكدت شركة “إنرجين” اليونانية التي تقوم بعمليات الإستثمار أن التقديرات الأولية تشير إلى أن الحقل يحتوي ما بين 7 إلى 15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي القابل للإستخراج. كذلك، فقد أعلنت الشركة اليونانية المذكورة عن بدء عمليات الحفر والتنقيب في حقل “زيوس” الواقع جنوب شرقي حقل “كاريش”.
يقدّر الخبراء أن إمكانات حقول الغاز على طول “الساحل الإسرائيلي” كبيرة جداً، لكن قدرة خطوط أنابيب التصدير لا تزال محدودة. إذاً تمتلك “الحقول الإسرائيلية” الحالية طاقات إنتاجية لم تُستغلّ بالكامل بعد، وبناءً على هذه المعطيات فإن سيناريو تحوّل “إسرائيل” إلى مورّد رئيسي لتصدير الغاز الطبيعي إلى الأسواق الإقليمية والعالميّة، هو سيناريو واقعي ومتوقّع. إلا أن أبرز التحديّات المهمّة التي تواجه السلطة السياسية تتعلّق بإختيار طرق تصدير فائض الغاز. لذلك، بدأت تتحرّك إقليمياً من خلال قيادة سلسلة محادثات ومشاريع مع دول الجوار لتوريد الغاز المستخرج من الحقول البحرية إلى الأسواق العربية والأوروبية.
مشاريع تصدير الغاز الإسرائيلي
أبرز المشاريع في هذا المجال وأكثرها جديّة يتمثّل بإختيار قبرص كبوابة لعبور “الغاز الإسرائيلي” إلى القارة الأوروبية، كذلك عمدت إلى عقد إتفاقات مع كل من الأردن ومصر. من هنا، تسعى “إسرائيل” إلى محاولات لإنشاء تحالفات إقليمية للطاقة في سبيل التخطيط لتصدير الغاز إلى الأسواق القريبة وذلك من خلال مد أنابيب غاز في البحر أو إنشاء محطات لتسييل “الغاز الإسرائيلي” على الخط الساحلي “لإسرائيل” المطلّ على البحر المتوسط من جهة كما وعلى الساحل المطلّ على البحر الأحمر بالقرب من “إيلات”، الأمر الذي سيساهم في تمكين “إسرائيل” من ربط الأسواق الأوروبية والآسيويّة على حدّ سواء. وبالتالي، من المرجح أن يؤثر هذا الأمر سلباً على فرص تسويق الغاز اللبناني في خضم إنشاء هكذا مشاريع. فأي إستراتيجية سيعتمدها لبنان لمواجهة هذه التحديات؟
في هذا السياق، وفي 14 كانون الثاني 2019، تمّ إنشاء “منتدى غاز شرق المتوسط” مقرّه القاهرة، وهو سوق غاز إقليمي يهدف لخدمة مصالح الأعضاء من خلال تأمين حاجاتها من العرض والطلب من الغاز الطبيعي، وهو يضم 7 دول شكّلت شراكة إقتصاديّة وتجارية في ما بينها وهي: إسرائيل والأردن واليونان وقبرص والسلطة الفلسطينية ومصر وإيطاليا. بحيث يكمن الهدف الأساسي منه العمل على إنشاء سوق غاز إقليمي يخدم مصالح الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب وتنمية الموارد على الوجه الأمثل، بالإضافة إلى ترشيد تكلفة البنية التحتيّة وتقديم أسعار تنافسيّة وتحسين العلاقات التجاريّة بين دوله.
في الإطار نفسه، وفي الثاني من كانون الثاني 2020، وقّعت كل من اليونان و”إسرائيل” وقبرص إتفاقاً لبناء خط أنابيب بحري لنقل الغاز الطبيعي من الحقول البحرية في شرق البحر المتوسط إلى أوروبا وهو مشروع من شأنه أن يخفّف من إعتماد القارّة الأوروبيّة على الغاز الروسي الذي يشكّل حوالى 40% من إحتياجات دول الإتحاد. وسيربط خط أنابيب “East Med” الذي يبلغ طوله 1300 ميل وتقدّر تكلفته حوالى 6 مليارات يورو شرق البحر المتوسط باليونان وسيتم ربطه لاحقاً بمجموعة من خطوط أنابيب الطاقة في إيطاليا. على أن تبدأ الأطراف الثلاثة بالتخطيط لكيفيّة الإستثمار بالمشروع وإستكماله لاحقاً بحلول العام 2025. بحيث يعتبر الإتحاد الأوروبي موقع خط الأنابيب المذكور حيوياً لأمن الطاقة الأمر الذي يبرّر سرعة موافقته على إطلاق المشروع.
إلا أن تركيا تعارض هذا المشروع بقوّة خوفاً من تقويض دورها كمورّد للطاقة إلى القارة الأوروبية، بحيث إتهمت تركيا الأطراف الموقعة على هذا المشروع بتدبير خطّة لعزلها في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا السياق طرحت العديد من الأسئلة حول تصدير الغاز عبر خط أنابيب “إيست ميد” حيث ستحتاج إلى عبور المنطقة الإقتصادية التركيّة والليبيّة، خاصة بعدما أبرمت تركيا إتفاقاً بحرياً لترسيم الحدود مع ليبيا في العام 2019.
فمن جهة تتواصل “إسرائيل” مع الإتحاد الأوروبي من أجل تزويده بالغاز الطبيعي، بالإضافة إلى تعزيز التعاون في ما بينهما في مجال الطاقة. ومن جهة أخرى دخلت بسلسلة محادثات وإتصالات مع دول أخرى عربيّة وغير عربيّة من أجل الهدف نفسه، خاصّة وأنها بدأت بالإنتاج من حقول عدّة.
بالنسبة إلى محادثاتها مع الدول العربيّة، عمدت إلى التواصل مع دول عربية وخليجية عدّة. إلا أنه في الوقت الحالي، تعد مصر والأردن الوجهة الرئيسة لصادرات “الغاز الإسرائيلي” وذلك عبر خطوط الأنابيب التي تربطها بكلا البلدين، ففي حين يستخدمه الأردن في تأمين إحتياجاته الداخلية، تقوم مصر بإعادة تصديره إلى الخارج بعد إسالته.
توجّه لزيادة الإنتاج والتصدير
من المتوقع أن تشهد صادرات “الغاز الإسرائيلي” إلى الخارج إرتفاعاً خلال المرحلة المقبلة، في ظل محاولة تل أبيب للمساهمة بتلبية جزء من الإحتياجات الأوروبية. في هذا السياق، وبتاريخ 8 أيار 2023، أعلنت الحكومة الإسرائيلية موافقتها على مشروع لتوسيع شبكة خطوط الأنابيب الإسرائيلية بهدف زيادة صادرات الغاز الطبيعي إلى مصر، على أن يشمل إنشاء وتأمين بنية تحتية متكاملة تناسب المشروع وحجمه ومتطلباته. تعد مصر الدولة الوحيدة التي تمتلك محطات لتسييل الغاز الطبيعي على سواحل شرق المتوسط، إذ تفوق قدرات محطات إسالة الغاز في “دمياط” و”إدكو” 12 مليون طن سنوياً. يعتبر هذا الأمر من أهم ركائز البنية التحتية التي تمتلكها مصر في مجال تجارة وتوريد الغاز الطبيعي.
وفي هذا الإطار، إعتبرت وزارة الطاقة الإسرائيلية أن الموافقة التي صدرت تسمح ببناء خط أنابيب في الجنوب الإسرائيلي بقيمة 248 مليون دولار على أن يمتد لمسافة 65 كلم إلى الحدود مع مصر، ما سيسمح بنقل 6 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً. الأمر الذي سيمنح إيرادات سنوية إضافية تقدّر بحوالى 55 مليون دولار سنوياً من جهة وسيسمح كذلك بزيادة إحتمالات تصدير الغاز من مصر إلى القارة الأوروبية من جهة أخرى.
تُظهر بيانات وزارة الطاقة الإسرائيلية أن العام 2022 سجّل زيادة ملحوظة في العائدات الناتجة عن بيع الغاز الطبيعي. بحيث تقدّر كمية الزيادة في تلك العائدات بنسبة 36%، إذ حققت إيرادات “الغاز الإسرائيلي” رقماً قياسياً جديداً يُقدّر بـحوالى 456 مليون دولار وسط توقعات بزيادة الإنتاج في السنوات المقبلة.
في المحصلة، من المؤكد أن تشهد مشروعات التنقيب عن الغاز طفرة كبيرة في الأعوام المقبلة، لذلك فمن المتوقع أن تقوم الحكومة الإسرائيلية بتعزيز عمليات تطوير حقول الغاز في المياه البحرية. إذ تعلم هذه الأخيرة أن “إسرائيل” مثل قبرص واليونان ومصر، تبحث جميعاً عن حلول لزيادة صادرات الطاقة إلى أوروبا، بما في ذلك توسيع الإحتياطيات وقدرات التصدير.
فهل سوف ترسم الإكتشافات البترولية الجديدة مستقبل “إسرائيل” الجيوسياسي بتغييرها عناصر الصراع في المنطقة؟ وأين لبنان من كل تلك التطورات؟
(نداء الوطن – باسكال مزهر*) دكتور في العلوم السياسية وباحثة في مجال إدارة قطاع النفط والغاز في لبنان.