لبنان
1 – تيار المستقبل ـ سعد الحريري
التسوية الرئاسية التي أوصلت الرئيس ميشال عون الى قصر بعبدا وأعادت الرئيس سعد الحريري الى السراي الحكومي، شكلت نقطة التحول الكبير في المسار السياسي للحريري الذي كان يقف في العام ٢٠١٦ عند مفترق طرق حاسم وأثبت قدرته على إتخاذ قرارات وخيارات صعبة ومكلفة. ولأول مرة يدير ظهره لحليفيه بري وجنبلاط ويذهب مع عون وعبره مع…
التسوية الرئاسية التي أوصلت الرئيس ميشال عون الى قصر بعبدا وأعادت الرئيس سعد الحريري الى السراي الحكومي، شكلت نقطة التحول الكبير في المسار السياسي للحريري الذي كان يقف في العام ٢٠١٦ عند مفترق طرق حاسم وأثبت قدرته على إتخاذ قرارات وخيارات صعبة ومكلفة. ولأول مرة يدير ظهره لحليفيه بري وجنبلاط ويذهب مع عون وعبره مع حزب الله الى ما هو أبعد وأكثر من مساكنة حكومية وسياسية. الى تفاهمات مرحلية وترتيبات جديدة في الحكم ضمن إطار «محور ثلاثي جديد» صار متحكما بإدارة الوضع والقرارات. في مسيرته الجديدة مر الحريري بتجارب أصعبها خاضها في الانتخابات النيابية ربيع العام ٢٠١٨ وشكل اختبارا لشعبيته التي كانت في حال تراجع ولتياره الذي كان في حال تفكك. خرج الحريري من التجارب القاسية بالتفاف الطائفة السنية حوله والتعاطف معه. وخرج من امتحان الانتخابات بنجاح، صحيح أن كتلته تقلصت عددا ولم تعد في المرتبة الأولى، وأن اختراقا حصل في التمثيل السني النيابي من جانب حلفاء حزب الله ودمشق، ولكن الحريري أثبت أنه مازال الأول على الساحة السنية وأظهر قوة ذاتية وبات ينظر إليه على أنه زعيم مستحق بقوته وحيثيته الشعبية والسياسية، وليس فقط لأنه ابن رفيق الحريري. وهذا ما أتاح له «التحرر» من أعباء وأثقال وأوضاع خاصة في تيار المستقبل وفي فريقه الاستشاري والمساعد، وفي الحكومة الثانية، فتم استبعاد وجوه ورموز بارزة سطع نجمها ودورها في مرحلة ما بعد العام ٢٠٠٥، وتم استقدام وجوه جديدة وفق معايير محددة أولها الولاء الكامل له. وهكذا أنجز الحريري عملية إعادة ترتيب البيت الداخلي وباتت له السيطرة الكاملة والمحكمة والقدرة على اتخاذ القرارات ورسم السياسات والتوجهات بطريقة أكثر استقلالية وجرأة وأقل مسايرة ومراعاة حتى مع الحلفاء، معتبرا أن هذه فرصته الأخيرة: فإما أن ينجح ويثبت أقدامه في الحكم والدولة، وإما أن يفشل ويخرج من رئاسة الحكومة لمرة أخيرة. بعد الانتهاء من إعادة تركيز أوضاع تيار المستقبل الذي خرج من مرحلة «عبور الصحراء» بأقل الخسائر الممكنة، انخرط الحريري في عملية تنظيم وتوحيد الطائفة السنية بتشجيع ورعاية من السعودية ومصر، والتي انطلقت بعد الانتخابات النيابية التي كشفت من جهة عن حالة وهن وتراجع عند تيار المستقبل، ومن جهة ثانية عن اختراق أحرزه حزب الله داخل الطائفة السنية مع وصول سبعة نواب سنة موالين له الى البرلمان انتظموا ضمن «اللقاء التشاوري» وتمثلوا بوزير في الحكومة. أقر الحريري قسرا بالاختراق الحاصل لمصلحة حزب الله، وأقر طوعا بالواقع السياسي الجديد داخل الطائفة السنية وأنه لم يعد لوحده من يمسك بزمام الأمور والقرار وإنما تشاركه قيادات وقوى أولها الرئيس نجيب ميقاتي الذي فرض نفسه في المعادلة ممثلا لطرابلس عاصمة الشمال ومركز الثقل السني في لبنان، وعرف كيف يخط لنفسه خطا سياسيا وسطيا مستقلا بعيدا عن اصطفافات ٨ و١٤ آذار وداعما لرئيس الحكومة ودورها وصلاحياتها، ولـ«اتفاق الطائف» الذي أصبح دستورا. وبعدما اعترف به الحريري كمرجعية طرابلسية وقال عنه إنه خير من يمثل طرابلس، اعترف به كمرجعية سياسية ودعاه الى اجتماعات بيت الوسط لرؤساء الحكومات السابقين. وفي الواقع، صار لقاء رؤساء الحكومات السابقين مصدر دعم أساسي للحريري في معركة التأكيد على الصلاحيات والمكتسبات، وكل مرة تعرض فيها الى ضغوط ومضايقات. نجح الحريري في الاستحصال على دعم دولي تقوده فرنسا وترجم من خلال «مؤتمر سيدر». ولكنه لم ينجح حتى الآن في إقناع المجتمع الدولي بأن لديه حكومة منسجمة ومنتجة، وقادرة على الإيفاء بالتعهدات وتطبيق الإصلاحات ومكافحة الفساد وتنفيذ برنامج «سيدر». لقد فقدت الحكومة زخم الانطلاقة واستنفدت طاقتها وتآكلت مصداقيتها والثقة بها سريعا. ويبدو أن الحريري غير مسيطر تماما على مجريات الأمور ومسار الحكومة، وأنه في وضع سياسي وشخصي لا يحسد عليه من جراء تراكم الضغوط والمتاعب. لكن مع ذلك مازال الحريري يمثل الخيار الأفضل للسنة والأنسب لرئاسة الحكومة ولا بديل عنه في هذه المرحلة. فهو زعيم السنة والأحق بتمثيلهم والشريك القوي في الحكم. وهو صاحب العلاقات الدولية العربية الواسعة، وله دور و«فضل» في استقدام المساعدات والأموال وانعقاد مؤتمرات الدعم للبنان. وتزداد الحاجة أكثر إليه في الزمن الاقتصادي والمالي الرديء. ولكن من الواضح أن تغييرا قد طرأ على علاقة الحريري مع كل من حزب الله والرئيس ميشال عون، وأن هذه العلاقة فقدت شيئا من الحرارة والانسجام في وقت لم تعد التسوية على حالها من التماسك والقوة. فالحريري وإن ظل ملتزما بسقف التسوية الرئاسية، إلا أنه أدخل تعديلا على تموضعه ومساره. والتسوية وإن ظلت قائمة، إلا أن الخلافات طغت على التفاهمات. إذا كان الحريري أعطى أولوية في العامين الماضيين لعلاقة التحالف والشراكة مع عون، معتبرا أنها الضمانة لاستقرار الحكومة وإنتاجيتها ولاستمراره هو في الحكم، فإن أولوياته تغيرت وأصبحت أولا لزعامته السنية وثانيا لعلاقته مع السعودية. وبعدما كان الحريري يعتبر أن تحالفه مع عون هو الذي يؤمن له الحماية والتوازن السياسي في وجه حزب الله، فإنه يعتبر الآن أن هذا التوازن يتأتى أولا من قوته وزعامته السنية، وأنه يحتاج الى جعجع وجنبلاط لتأمين التوازن في الحكومة وفي المرحلة المقبلة، وهو يعرف في قرارة نفسه أنه أمام خيارين» إما الرضوخ لمطالب رئيس الجمهورية والوزير جبران باسيل حفاظا على موقعه ودوره القيادي ولو بنفوذ أقل من السابق، وإما العودة الى تحالفات سابقة كانت تجمعه مع جعجع وجنبلاط ولو بشكل غير مباشر، والدخول بالتالي في عملية شد حبال طويلة الأمد. وإذا كان الرئيس سعد الحريري مستمرا بقوة التسوية، فإن مفاعيل هذه التسوية تتآكل، وعمليا صارت تنتمي الى مرحلة سابقة. وعلى الحريري أن يستعد لمواجهة استحقاقات مقبلة تبدأ من المحكمة الدولية وتمتد حتى الانتخابات النيابية والاستحقاق الرئاسي المقبل. وعلى الحريري أن يدرس خياراته الرئاسية من الآن ويستعد لـ«تسوية جديدة». فقد انطلقت معركة رئاسة الجمهورية وهو طرف وناخب أساسي فيها.